الاثنين، 3 يونيو 2013

بين التجرد والتمرد .. من وحي المبنى والمعنى

بقلم : ماجدة شحاته
اللغة العربية من الثراء بحيث فاقت كل لغات العالم، رغم تنكب الطريق لحمايتها من العبث برسمها الإملائي الذي كاد أن تتغير معالمه وضوابطه، لتغدو الأخطاء متجاوزة حدود الأفراد إلى المطبوعات والمنشورات الصادرة عن كبرى المؤسسات مما يعني استخفافا بالخطر، في غياب دور المصحح الكفء الذي ندر وجوده في ظل سياسة التسطيح التعليمي.

وفي اللغة ما يتماثل في حروفه، ويختلف في دلالاته، ومنها ما يختلف حرف منه عن كلمة متماثلة فإذا حل أحدهما محل الآخر، انتقل المعنى إلى شيء مختلف.

ومن العجيب في الصلة بين التجرد والتمرد ما تجده في تماثل الحروف، واختلاف حرف بداية الفعل الثلاثي، جيما أو ميما، حين يحل أحدهما محل الآخر، والأعجب هو سبق الجيم للميم في الترتيب الهجائي، ومن ثم سبق كلمة التجرد في الكشف المعجمي عن كلمة التمرد، وكأن النبل في الدلالة يأبى إلا أن يكون له السبق والصدارة.

وهنا يفرض النبل والسمو سمات للمتجرد، لا يكون متجردا إلا بها، فهو صفي النفس، نقي السريرة، ومن ثم فهو موضوعي في حكمه، منصف في نظره، تراه وقد انخلع عن حاجات خاصة، ونوايا ماكرة، متنزها عن الأنا، متواضعا لمن دونه، فيكون حكمه على الشيء غير متأثر بشيء سوى الحق وحده، فلا يجرمنه بخس حق أو غمط قدر، أو شنآن شخص أن يعرف لكل شئ قدره..

ويظل التجرد في موقعه ومكانه لا يبرحهما ترتيبا وتصديرا وتقديما، ما التزم مقتضى دلالته اللغوية سلوكا وتطبيقا، فإذا اختل شيء في ميزانه، كأن تميل نفسه، أو ينزع إلى هواه، أو يلهث خلف غرض يريد تحقيقه من حظوظ النفس، حتى ليصبح في بعض الأحيان ــ من حيث لا يشعر أو يشعر ــ أداة لغيره، يعتل نظره على نحو لا يعرف فيه حيدة ولا نصفة، فيتكدر صفوه برماد خصومة لا شرف فيها ولا نبل، أو اختلاف لا ينضبط بأدب، ولا يتزن بأطر أو قواعد يحتكم إليها، أو معايير يقيس عليها، فلا يرى حاجة لتآلف، بقدر ما يصنع التنازع والتشاحن، ففي التربص يجد له دورا، وفي الترصد يلقى متنفسا، فهو ممن تستشرف نفسه ما ليس من حقها، فتستعلي على من فوقها، إذ تراه دونها هوى وليس تنزيلا لمعايير أو مؤهلات.

هنا وعند هذه الدرجة يتنحى حرف الجيم إذ لا محل له من الكلمة وضعا وترتيبا ليكون مآل حاله انتقال إلى النقيض؛ "تمردا " يتجاوز به طغيانا وعدوانا، فإذا هو يختل في الرفض أو الاعتراض فيكون بإطلاق لمجرد الرفض، فهو في إصرار وعناد وليس في تقويم ونقد واعتراض لا يحكمه ضبط من قيمة أو منطق، ولو أحسن القصد واتزن في طلب الحق الذي يراه، لما انتقل من النقيض إلى النقيض، ولكان "التمرد" آخر ما يركن إليه أو يعتمد عليه وسيلة للاعتراض، ومن ثم فقد أوقع نفسه فيما لا يغري بمتابعة المتزن  أو موافقة معتدل لا يرضى بتعميم الخطأ، وينأى بنفسه عن غبن أو إجحاف في نظر أو حكم.

وسيظل "التجرد" حصن كل مبتغ للحق، وإن حامت حول الحق شبهات وترددت أباطيل، إذ نفي الريب عن الحقيقة مهمة الباحث المتجرد لإقرارها ولا يعنيه من أي جنس من يقوم على حملها وتنفيذها.


بين التجرد والتمرد مساحة ممتدة لاستقامة النفوس أو اعتلالاتها، وسلامة الصدور واختلالاتها، وهي تمتد بقدر ما انضبطت المعايير، وتأسست المقاييس، وتنزلت متجردة من أي لون نفسي أو فكري .
------------
طالع المقال على موقع : علامات أون لاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق