الخميس، 19 يناير 2012

فن تحييد الخصم وتحجيمه

بقلم : ماجدة شحاتة
تتعدد أشكال الخصومة بتنوع صور الاجتماع البشري، ولعل أسوأ أنواعها تلك التي تنطبع بالنفسية البشرية، ولا تنخلع عن الطبائع النفسية الشخصية في تقلبها وانحرافها عن قيم العدل والإنصاف من النفس ومن الآخر، منطلقة من نزاهة التجرد، وشفافية النظر.

ولقد قيل: "الإنصاف عزيز"؛ لغلبة الذاتية في التقويم، وإسقاط المعايير في التقييم والنظر، إذ القياس لا يكون صحيحًا حتى تتنزل المعايير مجردة من حظوظ النفس، ودناءة الطبع.

والانخلاع عن هذا كله- سموًا بالنفس واستعلاءً على الهوى- كان مطلبًا جوهريًّا في الخطاب القرآني؛ لتستقيم الحياة على حفظ الحقوق والأقدار والأشياء ( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) (الأعراف: من الآية 85) ، ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة: من الآية 8).

هذا التجرد من شأنه حماية المجتمع من غياب الحق عن أهله، وتغييب القدر عن أصحابه، وغمط الحقوق من يستحقها، ومن ثم يعلو السفيه، ويطفو على السطح الهش الخفيف، ويرتقي السلم وصولي وضيع؛ إذ تنطمس الحقائق، فتفشو المظالم، ويخفت القدير، ويتنحَّى الكفء، ومن هنا تربو صناعة الموتورين حين يجدون أنفسهم خارج التصنيف أو التوظيف؛ ظلمًا وعدوانًا، أو تجاهلاً واستخفافًا.

ربما كانت هذه أسوأ صور الخصومة التي تنفخ في كير الشقاق والنزاع، ولا تجد في الخصم أو المخالف قدرًا من الصواب أو حظًّا من القدرة يوفر مساحة تتسع للتلاقي لا التصادم.

ومنطق العقل في الخصومة، والأدب في المخالفة والتقوى عند رد العداوة.. إنما يفرض على صاحبه حيدةً في النظر وموضوعيةً في الرأي، وتجردًا في الحكم، ينأى بصاحبه عن الفجور في الخصومة الذي هو سمة المنافق.

وما نراه على الساحة من اختلاف أو خلاف يدفع بالحريص على مصلحة الأمة أن يتنزه عن الانجراف مع المخالف في دناءة طبعه أو وضاعة طريقته، كي لا يستقر في مستنقع يستفز من لا عقل له وهم كثرة؛ بحيث لا يصبح فريسة لإعلام يترصد، وتيارات تتحيز، فلا تعرف التمييز بين طيب وخبيث، ولا تدرك ملابسات تصريح، أو تقرير، ولا أبعاد قرار أو رأي.

إن تحييد الخصم أو المخالف، وتحجيم خصومته، مهمة لا يستطيعها كل أحد؛ لأنها فن من يتقن التحرك في القواسم المشتركة، من فكر أو قناعة أو مبدأ أو قيمة، أو مصلحة ومنفعة.

وهي فن لا يتقنه إلا متجرد يملك سلامة نفسية وصدرية تجاه مخالفه، وكل أفراد مجتمعه على تنوع الانتماءات والنفسيات؛ لأنه يدرك أن الاختلاف طبع بشري وفطرة ربانية ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) (118 - يونس).

والذكاء الفقهي أو الدعوي أو السياسي أن تتحول بهذا الاختلاف إلى تكامل وتعاون وتلاحم، لا إلى تنافر وتناحر وتصادم.

فالمشتركات الإنسانية مساحة تتسع للتجمع البشري حتى مع اختلاف العقائد مع انتفاء العدوان، وأجدر بهذه المساحة أن تؤلف بين مجتمع تنتظمه روابط شتى يغيب عنها الوعي فتتسع الهوَّة؛ ليصبح أبناء الوطن في شقاق بعيد، يُضاربه الجميع، ولو تجردت النفوس والرؤى لكان أدنى ما تسفر عنه الخصومة تحييد المخالف وتحجيم خصومته، حين تصعب مهمة كسبه في صف دفاعك، وحين يسهل الدفع بالتي هي أحسن سلوكًا ومنهج حياة في التفكير والتوجيه والنظر للأفراد والطاقات، يسهل عند ذلك أن يتحول المخالف- العدو- كأنه وليٌّ حميم، يقويك ولا يضعفك أو يفتُّ في عضدك، وهو مبتغى الخطاب القرآني في تحقيق سلامة الصدر والنفس لأفراد الأمة؛ للانطلاق نحو بناء متجرد في نهوض حضاري راقٍ وواعٍ.
--------------
طالع المقال على موقع : إخوان أون لاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق