لم تكن ممارسة
السياسة شيئا سهلا ، إذ لابد من دفع الثمن سجنا وحرمانا ، كان على ثقة أن الفجر
سيبزغ نوره ، وأن القادم سيكون الأفضل ، لكن أحلامه تلك في حرية وطن اختطف منذ
عقود ؛ وخلع من جذوره مما أوجد فصاما بين هويته وواقعه ، فلا تزال ملايين تحن
للمسجد ، تتشوق لعودة مجدها ،الذي غيبته مؤامرة فككت أوصاله ، وباعدت بين أركانه .
منذ أن أعلنها واضحة
بلا تمويه أنه يمثل الإسلام ، وجد من التحديات مالا يحتمل ، غير أنه وصحبه كانوا
يرون الأفق من بعيد ، وشمس الحرية تشرق فتنير الدنيا بنور جديد.
ما كاد يقف في
الميدان يلقي بكلمات شاعر الحرية ، ويردد على مسامع الجموع الغفيرة التي تحدت
أسلحة مشهرة وجنودا مدججة ،حتى تباكت الجموع فانهمرت الدموع شوقا لحلم العودة لمجد
سليب .
بمجرد أن أنهى كلماته
كانت عربة السجن تنتظره ، وفي السجن كان كيوسف يحدث هذا ، ويقنع ذاك ، يحدب ويرفق
، يعطف ويشفق ، يزيل التباسا ، ويرسخ فهما ويعمق إحساسا .
وتمضي السنون ويحتشد
الناس للتهنئة برئاسة الحكومة ، يضم هذا ويشير إلى ذاك ، إذ تغص القاعة بخلق كثير
، جاءوا من كل مكان يسلمون ويشدون على يديه ..
في مكان بعيد من إحدى
الزوايا ، وقعت عينه عليه ، وفي وسط الزحام المرهق تعرفه ، إنه هو مصطفى ذلك الذي
رافقه في السجن ، وعلى بساطته وفقره جاء يصطف بين الجموع ليرى حلمه الذي لم يعلنه
يوما ، بمجرد أن وقعت عينه على القائد الذي سيتحقق به الحلم ، انفجر باكيا رافعا
يده للسماء :
"الحمدلك يا الله أن أحييتني لأرى بداية العودة ، فلا أبالي
أن قبضت روحي وتوفيتني "
لم يكن مصطفى قد أكمل
تعليمه لكنه يحمل نفس الرؤية ، يمشي نحو العودة ، يبث الحلم في كل من يلقى ، يرابط
على نفس الثغرة .بما أوتي من صدق وقوة يقين .
"الحمد لله لقد جلس قائدنا على رأس الدولة ، الآن ستكتب
البداية ويبدأ المسير نحو الحلم "
قالها ثم هم أن يغادر
القاعة فماله وهؤلاء القادة ، لكن القائد لم ينس مصطفى وهو في السجن ، إذ كلما
اشتد همه ربت على كتفه ، وأشعل حماسه وجدد همته نحو الحلم .
انفض الجمع ، واستأذن
القائد من الحضورأن يبقى بمفرده ، وكاد مصطفى أن يغادر ، لكن القائد يناديه من
بعيد :
"بل ابق أنت يا مصطفى ستكون معي وحدك ، لتكون أول من أتحدث إليه
بمفردي ، ألا تتذكر ؟!! "
رجع مصطفى بذاكرته
عقودا يوم أن كان رفيق سجنه ، واشتد الكرب يوما فإذا هو ينفعل بالحلم فيراه رأي
العين فيقول لرفيقه :
"ستكون إن شاء الله رئيسا للوزراء ، وستحكم هذه الأمة ،
وحينئذ لن يكون بمقدور مثلي أن يقف إلى جوارك أويكون بجانبك "
غير أن الرفيق ينظر
إليه في تعجب أن يؤتى هذا الرجل البسيط كل هذا اليقين فيعده أنه يوم أن يتحقق ذلك
فسيكون مصطفى هو أول من يتحدث إليه بمفرده ..
----------------------
*
"قصة زعيم" هي
حياة رجب طيب أردوغان ــ ط دار البشير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق