الأحد، 12 فبراير 2012

تدبر القرآن صوغ العقل والوجدان " الظلال نموذجا "

بقلم : ماجدة شحاته
انطلقت السفينة تشق عباب البحر، متجهة إلى الغرب، وعلى متنها خلق كثير، مختلف المشارب والأجناس والألوان، جلس صاحبنا يتأمل كيف يصبح بمقدور الاستبداد أن يبعد من لا يطيق، بنفي وتغريب، أو سجن وتغييب، ربما لم يكن إلى هذه اللحظة يدرك أن في المحن منحا ستسفر عن جميل وجهها عما قريب..

أسدل الليل سدوله ، وأرخى على الكون صمته وسكونه، وبينما انطوت كل نفس على همومها، نهض قس يدعو أتباعه لصلاة يستعين بها على سفر طويل، اهتزت نفس صاحبنا غيرة، إذ صلاة المسلمين أكثر إعلانا عن هويتها وتمايزها، فلم لا تسمع الدنيا بها، ؟ولم لا يُرِي المسلم من حوله من هذا الجمع سمت الإسلام وشعيرته؟ فنادى أن حي على الصلاة..

توافد رهط من جنسيات شتى بسحنات مختلفة في لونها وقسماتها، أقيمت الصلاة، تقدم الصفوف، وعلى حين تعانق السماء مياه البحر، ويبدو الكون تظله تلك السماء من كل جانب، وفي ظلمة الليل وسكون الكون أغرته القراءة فأطال، كان للصلاة وقع آخر، التفت يمينا ويسارا، وما كاد يعتدل في جلسته بعد التسليم، حتى انطلقت إليه عجوز لا تلوي على شئ، إلا أن تربت على يديه في بشاشة بادية، وسعادة بالغة، وتأثر عميق بما كان يقرأ، لتسأل بلغتها عنه، وتؤكد له أنه ليس كلاما عاديا؛ فقد لامس قلبها بإحساس دفين من الإجلال والتعظيم، وأنها قد تجاوبت معه على نحو لا تدرك سره أو كنهه، فهي لا تعرف العربية ولا تمت لها بأدنى صلة، ولكنه نفذ إلى قلبها كما لم تتأثر من قبل، غير أنها لفرط إحساسها وعمق تأثرها أبدت له تقديرها من أثر ما وجدت من سكينة نفسها وطمأنينة قلبها حين أصغت إليه سمعها.

رغم أنها لا تفقه منه شيئا إلا إحساسا عظيما تملَّكها، أنه شئ آخر غير كلام البشر أو الحانة، لعله من السماء فأرادت أن تستوثق من قارئه، ثم مضت مغتبطة بصدق إحساسها..

هنا بدأ صاحبنا يلتفت إلى القرآن من حيث هذا التأثير العجيب على من لا يعرف لغته، فخامرته الأسئلة: من أين تأثرت به هذه العجوز وهي لا تعرف العربية؟ نعم هو كلام معجز في ذاته، لكن من أين تعلم هي أنه لابد أن يكون من السماء؟.

إذن في القرآن تأثير عجيب على النفوس وإن لم تفقهه، في القرآن إذن قدرة عجيبة في التأثير على الوجدان والمشاعر والأحاسيس وإن لم ينطق الإنسان العربية قط، فمن أين جاء لهذه المرأة تلك المشاعر التي عبرت عنها؟

لقد أصغت المرأة إلى الصوت ليس بأذنها كأداة للسمع، بل أسلمت نفسها لما تسمع، وأفرغت مشاعرها من كل ما يحول بينها وبينه من هموم أو شواغل، فكانت نفاذية التأثير بقدر صفاء قلبها ونقاء انشغالها بالاستماع إليه.

وهكذا النفس الإنسانية يصوغ القرآن وجدانها خشوعا وخضوعا وتسام، حين لا يحول بينها وبينه حائل، أي حين تصفو النفس ويشف القلب، ويتوجه المرء بالكلية إلى كلام الله في صفاء ذهن ونقاء مشاعر وجلاء وجدان (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) استماع وإنصات ليقع للمنصت (لعلكم ترحمون).

(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) فالجبال تتلقاه مجردة فطرتها كما خلقها ربها، وهكذا ينبغي أن يتلقاه الإنسان، وما غياب تأثير القرآن في الخلق إلا آتٍ من تلك الحواجز التي أقامها الإنسان بينه وبين القرآن، فحرَمَته ذلك التأثير الشفيف الذي وجدته تلك العجوز، إنه لا يُخلي بين نفسه والقرآن، فلا يدعها له يفعل فعله فيها تهذيبا ورقيا ونبلا وعلوا.

من هنا كانت بداية الانتباه إلى الصلة بالقرآن، وإدراك سره، وكشف فتوحه والتعرض لكشوفه التي لا تسلم نفسها إلا لمخلص ذاب يقينا بحلاوته، وثقة بفتوحه التي لا تنقضي. فعاش أستاذ الفكر وشهيد الكلمة "سيد قطب" عليه رحمات الله "في ظلال القرآن" فجاء كأنه تنزيل من التنزيل في كلماته الملهمة وعباراته الندية التي تلامس الحس، فتشف النفس، وتعلو الروح وتسمو محلقة في عنان السماء استعلاء ورقة.

تنفذ كلماته إلى القلب فتصوغ وجدانا مرهفا بخشوع وخضوع، وتسليم وانقياد لمقتضى الكلمة الراشدة، والعبارة الرسالية الملهمة، فإذا صيغ الوجدان على هذا النحو، جاء العقل ملهما ومستنيرا وعاءً لمعارفه وأسراره يتزن فلا يختل، وينضبط فلا يعتل، فلا تراه يشذ أو يشرد عن مسلَّمات استقامت رؤاها وصح نظرها؛ فيسلمه القرآن –العقل- إلى حقائق وسنن لا تتبدل ولا تتغير، فيكون الاستقراء من الوعي والحكمة بعد طول سبات على ما تناقلت الأمة من غير روح تدب في الكلمات فتحيي الموات، وبالظلال تجددت الأمة وجدانا يسمو ويرقى بالنفس البشرية وعقلا يهتدي بنوره وسره فيأتي مفاصلاتٍ تحسم، وحقائق تجزم، وبراهين تدمغ الباطل، وفهما طالما استعصى على الأمة، وتوقعات تحدث بعد عقود ليس لصدق حدسها، ولكن لبعد نظرها ويقينها بحقائق التاريخ وطبائع الواقع، ولا يتوقف المفكر الشهيد عن مفاصلاته حتى يكون مثالا ونموذجا فريدا في بناء عقلية مسلمة تستعصي على التذويب، برغم امتداد الآخر في فراغ الأمة العقلي، صلبة تأبى سياسات التغييب بكل أنواعها، واقفة في خندق يواجه تحديات الأمة في ثبات منهج أنتج فكرا "يحفر خندقا ويبني قلاعا ويقيم حصونا عالية الأسوار" (*) تحتاجها الأمة في معركة استعادة الشهود الحضاري لأمة الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المستشار البشري يصف فكر سيد قطب
--------------
طالع المقال على موقع : علامات أون لاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق