الاثنين، 20 فبراير 2012

التجديد في منهج الإمام البنا والقابلية للتطوير


بقلم : ماجدة شحاته
إن المنهج العبقري للإمام البنا، ذلك الرباني الملهم في تجديده للإسلام بعد إضعاف وتغييب، ثم إقصاء وتغريب بإسقاط الخلافة، وتخطيط ماكر لغزو ثقافي وفكري، يتحول بالشعوب المسلمة عن الإسلام سمتًا وعقلاً؛ بحيث تغدو الأمة كلها في قبضة القوى الغربية.

هذا العبقري في مشروعه الحضاري للتمكين للإسلام واستعادة دوره في ضبط البشرية وقيادتها نحو الخير؛ كان منهجه يرتكز على ما ارتكزت عليه التربية في القرون الفاضلة، وهو التشكيل العميق للنفسية المسلمة، والصياغة الدقيقة لعقليتها، وفق مقاصد الإسلام لتحقيقها في حياة البشر؛ بحيث تكون مخرجات هذه التربية عناصر صالحة في نفسها مصلحة لغيرها، قادرة على التحرك بأخلاق الإسلام في سلوك راق، مذكرة بنموذج الإنسان القدوة في حركة الحياة نحو الآخرة.

وهذا المنهج الذي قام على فهم صحيح لا يمكن أن تصادمه الفطرة السليمة، أو العقلية الراجحة، أو التكوين النفسي المتزن، الذي يخلو من خلل أو علل؛ إذ جوهر هذا المنهج: تحول بالإسلام إلى منهج واقعي للحياة وسلوك ملموس في واقع الناس ومردود إيجابي للعلم والفقه في الدين، وهو ما كان- ولا يزال- آفة التدين: الانفصام النكد بين السمت والسلوك، بين الانتماء للفكرة الإسلامية ومعطيات الفرد مع من حوله.

لقد جاء منهج الإمام البنا ليعكس في أخلاق رجاله رقيًّا ونبلاً وسموًّا، وهو ما تحتاجه البشرية في كل حين، وهو الوسيلة الناجعة التي غزا بها الإسلام البشرية وهي على شفا الهاوية من استبداد الإنسان بالإنسان في كل صوره التي لا تعرف حقًّا ولا تراعي المشاعر.

هذه هي إضاءات منهج الإمام البنا في النفسية الإنسانية: الحب والبر والرحمة والإيثار والإنصاف من النفس للآخرين، وكلها قيم تلامس نفوس البشر وقلوبهم، فتأسر الناس، إذ تنتزع علل الصدور، فتحجم الخصم أو تحيّد المخالف، وموضع الابتلاء في واقع الحياة، كدليل على ضعف التكوين: أن يتخفف المنتمون لهذا المنهج من المستوى القيمي الذي يبرز في السلوك العملي عاكسًا قيم الإسلام ومكارم أخلاقه، بغضِّ النظر عن ثقافته ومستوى معارفه، فلم يكن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، فقليل من يتجرد في النظر إلى سمو المنهج دون تحكيم سلوك الفرد عليه؛ اتفاقًا أو اختلافًا، وكثرة تربط بينهما، فإذا اختل السلوك البشري، وصمت الفكرة، وعيب المنهج، وهذا مما لا بد له من الاعتبار، في تأكيد موافقة السلوك لمقتضى المنهج، أي اقتضاء العلم العمل وإلا لم ينفع، وكان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض، وهذا سر رقي السلوك البشري الآسر.

وحين نجد البعض يصادم هذا المنهج أو يعاديه فاعلم أن وراء ذلك سلوكًا منفرًا، أو سياسة تكدر صفو النفوس، وجلاء العقول؛ إذ لا يتصور من يعرف أن للإسلام سموًّا وقيمًا وأخلاقًا  أن ثم وجودًا لعناصر لا تحسن سياسة النفسيات في تيار أو جماعة لم تشق طريقها إلا بهذه السياسة الراقية، التي تستعلي على الحاجات الذاتية، والطموحات الشخصية؛ من أجل الدعوة وحدها، كقدوات في إنكار الذات، وإيثار الآخر في تجرد غير معهود، وتنزّه عن الدنيا أو زهد فيها غير موجود، إلا في بناة الدعوات، وهم قلة على مدى مسيرة البشرية، ومن المبالغة ادِّعاء الكثرة؛ اللهم إلا في أشباه نماذج تنحرف عن الجادة فتوشك أن توصم الدعوة بالنقيصة لما في هؤلاء من علل.

وحين ترتبط الدعوات بالأفراد في السلوك اليومي ولا يكونون على مستوى القدوة في الرقي؛ فإن الراصد لا يقول فردًا أو شخصًا أساء بل يقول: جماعة أو مؤسسة مسيئة.

إن الإسلام في مساراته الصحيحة نحو التمكين والانتشار، لم يرتبط قط بسلوك بشري معوج إلا في النادر الذي لم يكن يومًا يمثل ظاهرة بلغة عصرنا، أو خطرًا يتهدد مدَّه في محيطه أو خارج أرضه، مما يعني غلبة النقاء والرقي في سلوك دعاته وحملته، كانعكاس طبيعي لمنهج قوام وجوده على الأرض أخلاقٌ يلتزمها التقي النقي.

وهذه الأخلاق هي التي يحرص البناة على إثباتها في حركتهم اليومية مع البشر على تنوعهم طباعا وعقولا وانتماء وأهواء ؛ حتى لا يعلق بالمنهج ما يسيء إليه أو يساء فهمه، مما يحول بين الناس وبين هذا المنهج.

وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم تبرئة لساحة الإسلام من شبهة التأويل الفاسد لظاهر السلوك النبوي، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤصل لارتباط وثيق بين القرار وملابساته أو أسبابه، فإن لم يضمن ذلك، فإنه- صلى الله عليه وسلم- يؤثر ألا يكون قرارًا في حقِّ مخطئ، ما لم يتصل الخطأ بانتهاك حرمات الله؛ سدًّا لذريعة الفهم السقيم للقرار أو التوجيه المغلوط ضد جهة اتخاذ القرار، يمكننا قراءة ذلك من إيثاره صلى الله عليه وسلم الإبقاء على حياة زعيم النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد أشار بقتله عمر الفاروق، لما ارتكبه ابن سلول من خطيئة في حقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرر الأمر مع غيره ممن لم يحسن ظنه أو خطابه معه صلى الله عليه وسلم، فما أُثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه غضب لنفسه قط.

فبرغم تربص هذا المنافق بالنبي صلى الله عليه وسلم وعداوته للإسلام إلا أنه بانضمامه للصف المسلم صارت له استحقاقات لدى الجماعة المسلمة تؤديها إليه مع تقصيره وتقاعسه عما عليه من واجبات، بما يحفظ سمعة الجماعة من القيل والقال، وسمعة النبي من الافتراء الناتج عن الجهل بالدوافع والمبررات.

وعليه فإن سوء تصرف القيادة تجاه من كان في ركبها على قدم المساواة معها، رأسا برأس، وسوء تأويلها للمواقف، التي لا تنحاز لاختياراتها، ليس معناه ممارسة نوع من العزل الحركي، وإساءة التأويل باتهام النوايا، والتشكيك في المقاصد، والمصادرة على القدرة والمصداقية، بغمز في العهد واستباق بترقب الخيانة والفشل.

إن هذا كله ليلقي بظلاله الكثيفة ليس على مستوى أو درجة ثقة الصفوف في الداخل، بل أيضًا على سمعة المنهج، الذي تتقدم به القيادة للناس؛ إذ تفتح الأبواب على مصارعها لتأويلات مغلوطة، وفهوم سقيمة، وانطباعات خاطئة عن آلية الترتيب في الظهور والخفوت، والتقديم والتأخير، والتوظيف والتعطيل، بما يعكس شيئًا من توقع إمكان ممارسة نوع من الظلم نحو الأفراد واتهام- وهو مرصود بالفعل- باتسام بعض القرارات بالفردية، وافتقاد الآلية الضابطة، والمعيارية المتجردة في الحكم على الأفراد، والتي تُستدعى حينًا، وتُغيَّبُ عمدًا وقصدًا أحيانًا.

قد ترى في الداخل من يرصد الخلل، وينبه على علل في قرار، فتوصد دونه أبواب التبليغ، أو يُتهم في قصده ونيته؛ لعله طامحٌ لموقع، أو منافس على مكانة ما يحول دون استدراك الخطأ أو تصحيحه.

ومهمة البعض أحيانًا- رغم علمه بالخلل والقصور- أن يكتم الشهادة، وألا يستدرك على القيادة مخافة التوصيف الخاطئ أو التصنيف الذي يهدر مكتسباته.

وحين يطفو على السطح بعض هذه العلل، وفي ظل تزييف متعمد للمفاهيم والقناعات عن الإسلام وحملته فإن هذا يساهم بقدر وافر في تكريس الصورة المسيئة، وتصبح مهمة تحسينها من الصعوبة، بحيث يجب أن تعود حركة المنهج نحو مراجعات تربوية، تتصل بتزكية النفوس، وتعهدها بالترقية والتنقية، إذ إن انحرافات السلوك الحركي سواء على المنتمي أو غيره بهضم الحق أو تجاهل القدر بما يخالف الرقي الإسلامي في تعامله الواقعي مع البشر الذي يرى أن كل المسلم على المسلم حرام، ومرجع هذا الانحراف في الأساس نفسيًّا فبقدر ما تشبع من مكارم الأخلاق يكون رد الفعل تجاه الآراء والمواقف والأشخاص، وحين تهيمن آلية مقننة، وتحكم ضوابط ذات أطر معيارية، ومقاييس جودة نوعية لا تحابي ولا تنحاز، بل تتعامل متجردة متنزهة، لا يختل ميزانها لانطباع شخصي أو نفسي تتوارثه المجموعة في محيطها، ولا يُغض من طرفها توصيةٌ، ولا يُعمي نظرَها تقديرُ ثقةٍ يفتقد معايير الكفاءة، وربما تنعدم عنده مهارات التقييم، حينذاك تطمئن النفوس إلى قرار يُتخذ، وتقر العيون أن ثم عدالة لا تخضع لقناعات الأفراد تفعيلاً أو تجميدًا، بحيث لا تخطئ طريقها في توظيف صحيح للطاقات والقدرات، وهذا هو التطوير المطلوب في مرحلة لها معطيات تفرض مقتضى لا يتوقف عند ماض لن يكون فاعلاً حتى يتجدد بمنهجية تتسم بنفس ما اتسم به تجديد الإمام من الإلهام والاستقراء الصحيح والفهم الواعي لفقه الواقع وفقه النفوس والعقول.

ووجوب هذا التجديد لا يغض من قدر الإمام البنا عليه رحمات الله، ولا ينال من قوة منهجه، أو يُنقص من قدرته على العطاء والاستمرار، وبقاء أثره وتأثيره وفاعليته؛ ارتباطًا بأصالة الانتماء، وعمق الامتداد، ونبل الغاية، وشرف الوسيلة نحو التمكين من خلال جيل فريد يعيد على أسماع الدنيا سمو السلوك الإنساني ورقيه، كما كان في عهوده الأولى زمن الخيرية؛ ما يفتح الآفاق أمام البشرية لإمكان تمثل مكارم أخلاق الإسلام وقيمه، وأنها لم تنتهِ عند تلك الأزمنة ولا تلك الأمثلة، وأنها قابلة للتكرار في مجموع الأمة حين تصبح عقيدة أمة ومقتضى إيمانها.
--------------
طالع المقال على موقع : إخوان أون لاين 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق