الجمعة، 8 يناير 2010

بين الاحتواء والإقصاء

بقلم : ماجدة شحاته
أن يشقى المرء برأيه، فهذا هو الاستبداد بعينه، حتى لو كان في منظومة دعوية، يُفترض أنها تؤمن بالرأي والرأي الآخر، ليس من منظور ثقافي معاصر له مصطلحاته المتعارف عليها في عالم الحكم والسياسة، ولكن من منظور فقهي واضح مورس في كل عصور الإسلام المشرقة، متفرداً به دون غيره من أيديولوجيات؛ ذلك أن للخلاف فى ديننا أدباً وضوابط كلما روعيت ارتقى الخلاف إلى سموّ بالفكرة، واستعلاء بالهدف عن كل ما يعوقه أو يؤخّره أو يشوّهه..

إن نفي وجود تعدّد في الآراء، وتنوّع في وجهات النظر مهما كان حجم هذا التعدّد أو ذاك التنوّع داخل المنظومة، إما أن يكون مغالطة كبرى تُرْتَكَب في حق حقيقة ناصعة، وإما أن يكون مصادرة بالكلية لمن نختلف معهم تماماً، واعتباره غير موجود بالمرة وكلا الأمرين مرٌّ، فالمغالطة خداع وكذب إن لم تكن دسًّا للرؤوس في الرمال كما تفعل النعام، ولن ينفعها ألاّ تنكشف الرأس إذا كان الجسد كله عارياً، تبدو جميع سوءاته، ومطلوب أن نصدق أن الجسم غير ظاهر، وألاّ شيء موجود! فإما أن نكون عمياً أو نتعامى انسياقاً وراء من يريد أن نصدقه في ألاّ خلاف فى رؤية على الإطلاق، وهو ضد طبائع الأشياء.

 وأما المصادرة التى تعني الإلغاء فهي أبشع وأشنع؛ إذ من الظلم بل والجحود أن يُستبدّ برأي ويُنكر المخالف، ولا يُعرف له فضل أو قيمة، بحيث يصل الطغيان إلى التهميش والتحجيم والتجميد، وأن تتم ممارسة ما من شأنها سحب البساط من تحت الأقدام؛  ليقف المخالف وحده يذود عن فكرته، ويدفع عن رأيه، ثم لا يُؤبه له..

إنه ليس صراعاً كما يحدث بين مجموعات تنتمي لتوجّه ما، وليس تنافساً على سلطة أو قيادة كما هو في أي مؤسسة، ذلك أن الدعوة ينتظمها أناسٌ وضحت غايتهم، واستبانت رؤاهم، وتوحّدت منطلقاتهم، فكلٌّ يعمل لأجل دعوته، وكلٌّ ينصح وفق ما يرى من معطيات واقع اختلف كثيراً عما سبق، لذا فإننا نسميه تعدّداً وتنوّعاً كألوان الطيف تتعدّد ولكن تبدو في ظاهرها ضوءاً ساطعاً، ولو أن هذا التعدد حدث في جو نفسي صحي لاستقام أمره باطنه وظاهره، ولكن يبدو أن خلافاً ما في الأجواء نفسياً وتربوياً، أدّى إلى النظر غير المنضبط لأي رأي مخالف؛ إذ يصبح صاحبه مداناً بما يرى، متَّهماً بما يبتكر أو يبدع، مُؤَاخذاً بما يضيف أو ينتقد، حتى إن كلمة نقد تثير حساسية لدى كثيرين، وحسب من يخالف أن يسفَّه رأيُه، ويُعامل على أساسه تقريباً وإبعاداً..

ولا يعني ذلك أن كل مخالف على حق، ولكن ينبغي أن نكون وسطاً في النظر إلى ناقد مخالف، حتى لا ننظر إليه على أنه ناقم للحق مُجانِف له.

إن سعة الآخر الناقد بالحلم والتقدير، وتوسيع دائرة الحوار معه حول ما جاء به جديرٌ بأن يؤدي إلى قناعة لدى الطرفين بأي الرأيين، أو اقتناع بفائدةٍ ما ينطوي عليها الرأي المخالف، تُضمُّ إلى رأي الشورى فيعضد كلٌ منهما الآخر..

إن تاريخنا المشرق لم يترك لنا مساحة فى أى جانب من جوانب الحياة، والاستدراك على القيادة لم يكن مطلب الرعية بل هو مطلب الراعى القائد؛ إذ يرى أن في الاستدراك عليه ما يحقق مصالح الدين والدنيا، وليس هناك من هو في عدل عمر وثاقب رأيه وتقديره لمصلحة دينه وأمته بعد الصِّدِّيق، و على الرغم من ذلك يفتح باباً أمام رعيته لمتابعته وتقويمه، ومراقبته والنصح له، ولو استقر عنده غير ذلك لتضخم عنده رضي الله عنه  شعور بالترفع عن الاستماع للآخر؛ إذ حسبه أنه خليفةُ خليفةِ رسول الله، أى الرعيل الأول، ولكن من ذا الذي لا يخطئ، ومن ذا أوتي الحكمة كلها؟ ومن لا يُرَدُّ قوله، أو لا يُنقد له رأي إلاّ المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!

"إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني" تجريءٌ للآخر وتشجيع له كي لا يتردد في الإدلاء بكلمة، أو توجيه بنصح، أو مبادرة ومبادَأة بما فيه صلاح، ولأن غاية الجميع واحدة، ولا يشكك أحدٌ في ولاء أحد أو انتمائه تأتي مقولة الرعية.. "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا" كلمة حادة شديدة اللهجة، عنيفة مرهبة وفق قواميسنا وإسقاطاتنا نحن، لكنها فى قاموس المخلصين: غيرة على الحق مخافة الجنوح عنه، وحرص على استقامته يحدوه الصدق، وتمليه التقوى بمقتضى خطر أي اعوجاج يُرى من القيادة، يترتب عليه مصير أمة ومسيرة دعوة، والاعوجاج هنا تتباين درجاته، ويتعدّد حجمه صِغَراً وكبراً، بساطة وتركيباً وضخامة، المهم أنّ توصيفه لا يخرج عن كونه اعوجاج..

ولأن خيرية الصف لا تزال في أوجها راعٍ ورعية، ولم تلقِ أمراض النفوس بظلالها فى تأويل الكلام، وتوجيه القول أو تحميله على الوجه السيئ، والمحمل السوء، ولأن المؤمنين لا يزالون يظنون بأنفسهم خيراً؛ فقد انبسطت أسارير القيادة وتهلّلت حامدة شاكرة قدرة الجنود على التقويم، والتصحيح والتوجيه فكانت المقولة الخالدة: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم عمر بسيفه". إنه اطمئنان إلى القدرة على التقويم، فربما مع غيابها يتعمق الرأي الفرد، ويتم تكريس الاستبداد، والانفراد بالقرار، مما يشكّل خطراً جسيماً تتحكم معه الأهواء، وتتقارب منه الوصولية؛ فلا يطفو فوق السطح إلاّ من يحسن فن الظهور بمظهر الموالي المنتمي وغيره المعاند المعتدي.

إنه احتواء لا إقصاء وفرق شاسع بين الكلمتين.. الاحتواء اعتراف بالمخالف، وتوظيف لحركته الدؤوبة حتى تصب فيما يصلح المسيرة، والإقصاء إنكار عليه، وتبديد لحركته وتشتيت لها؛ إذ تنشغل فى حوارات وجدليات تحاول من خلالها إثبات صحة وجهة نظرها، وظلم القيادة لها.

الاحتواء سيطرة ناعمة على الآخر، فلا يكاد ينطلق من تحت جناحي المنظومة؛ إذ يتحرك في دائرتها بنفسية مطمئنة لا تترقب ولا تتردّد أو تتخوف، بينما الإقصاء تعسّف في التعامل مع الآخر، وتكريسٌ للشعور بالظلم، وربما كانت مخالفة الآخر أقلّ من أن يكون لها هذا الأثر النفسي الضخم لولا سوء الاستقبال..

الاحتواء يدل على قدرة متميزة للقيادة في لم الشمل ورأب الصدع، وتهدئة الخواطر، والتجميع بين الفرقاء دون حط من أحد على حساب أحد من غير تسفيه لرأي، أو إعلاء لآخر دون معايير.

الإقصاء عجزٌ يُنْذِر بخطر التكثير من الحانقين والموتورين ممن يترصدون المسيرة لتلقف أي خطأ تُقام الدنيا له ولا تقعد.

الاحتواء مؤشر على سلامة الجو النفسي، وبالتالي صحة التربية وقدرتها على الارتقاء بالأشخاص على وتيرة واحدة ومستويات متعددة، من حسن الأدب والترفع عن سفاسف الأمور.

بينما الإقصاء يدل على خلل تربوي لابد أن يُحدَّد موضعه وبواعثه وآثاره ليمكن علاجه والتخلص منه.

في الاحتواء بيئة فاضلة ونفسيات سوية تنتظم الجميع، بينما في الإقصاء اعتدادٌ بصلاح منهج يُعمي ويصمَّ عن النظرة فى اعتلال الأفراد، وربما استبعاد علتها من الأساس.

حركتنا الدعوية في كل مرحلة من مراحلها تحتاج إلى مراجعات بغير اتهامات، ومصارحات بغير تشنّجات، وتسليم بأن فصلاً لا بد أن يحدث بين صحة المنهج وكماله وجلاله، والإضافة إليه أو التجديد فيه، أو التعاطي به مع الواقع حركة وحيوية وتفاعلًا، وتجدداً وتغييراً في الأساليب والوسائل، لتحقيق نفس الغايات دون جمود أو غرور.
---------------
طالع المقال على موقع : الإسلام اليوم 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق