الاثنين، 26 يناير 2009

فتوح في غزة


بقلم : ماجدة شحاته
عندما استنامت الأمة إلى وضعها المخزي، وُظُن أنه قد أُحيط بها، استسلامًا وانطباعًا بالهوان والفساد، كدم طبيعي جرى في شرايينها؛ يصعب عليها أن تُنَقَّى منه لتداخله واختلاطه باللحم والدم؛ أتت مجزرة غزة العزة لتدق نواقيس الإيقاظ والانتباه بقوة صارخة؛ لا يقتصر صداها على فرادى أو آحاد، بل تصنع همًّا مشتركًا؛ إن لم يكن للأمة كلها على مختلف درجات وعيها، أو جهلها، فإن العالم كله صار يتنادى بما يحدث في غزة.

وهذا هو دور المحن التي تنزل بالأمة في فترات انحطاطها وتخلفها؛ لتعيد إليها اتزانها وتوازنها العقلي، وبُعدها الإيماني في تصوره عن الكون كله، ومسيرة البشرية فيه.

هذه المحن تأتي لتُنضج وعي الأمة على نار الابتلاء والاستهداف لتتضح الصورة التي طُمست، عن طبيعة الصلة بين الكفر والإيمان، والحق والباطل، وحالات الأمة في موقفها من المعسكر المناقض بحسب الأخير؛ مسالمًا أو معتديًا، مجاهرًا بالعداوة فعلاً وقولاً أو مُتستِّرًا طاعنًا من خلف.

ومحرقة غزة المجزرة على هذا النحو جاءت بعد ركون الأمة لاجتهادٍ يتعاطى مع الواقع المزري باستسلام ومعايشة وقبول، وكأن هذه الوضعية المنتكسة للأمة أمرٌ طبيعي لا نملك الانعتاق منه، حتى لوحظ تبنِّي البعض ممن لا يستهان به في الخطاب الموجِّه أطروحات تقفز على هذه الوضعية بالتعامي والتجاهل لا بالتفاعل همًّا وكمدًا من أجل التغيير والتخلص الجذري من كل أسبابها.

هذا التبنِّي لتلك الأطروحات ظن الإصلاح يأتي عبر سلم لا يمكن تفسيره في الواقع سوى أنه تسليم وخضوع، هذا دون أي استشراف لنوع تضحية وفداء لتكريس ما هو لائق بهذه الأمة.

إن قوة الهدم والتدمير والاستهداف لهذه الأمة اشتدت مع بداية الألفية الثالثة، حين خطَّط معسكر الكفر لقرنٍ قادمٍ استهلَّه رئيسه المخلص لفكرته واعتقاده (بوش) بإعلانه بدء الحرب الصليبية صراحةً ودون مواربة، وحيال هذا الإعلان لم تقف الأمة عليه لتسبر غوره وتفسِّر دوافعه، بل قبلت بتفسيرات عدة معتذرة عنه، بما صرفها عن حقيقة واجب الانطلاق منه في التفكير وطريقة التجاوب مع الأحداث تباعًا لتكون لها رؤية مستقلة ومفاصلة.

لقد سقط الإعلان الصريح ببدء حرب صليبية من ذاكرة الأمة، ومضت أمريكا كقوة منفردة غاشمة وحاقدة، تنفِّذ خطتها في حربها الصليبية الناعمة والمبررة من قِبل الأتباع والعملاء، وقد انتهت في غفلةٍ من الأمة، وفي أقل من نصف أول عقد من القرن الموعود، باحتلال سافر وفاضح للعراق وأفغانستان؛ دفعت الأمة من فاتورته الكثير مما يحتاج إلى عقودٍ من أجل استعادته.

إزاء هذا لم تُحرِّك الأمة ساكنًا، مهما كانت فورات الغضب؛ فكلها ذهبت الأدراج سدى ودون جدوى؛ لأنها فورات لا ترتكز على منهجية أو إستراتيجية في ظل الفصام النكد بين الأنظمة والشعوب من ناحية، والعلماء ومقتضى ما يجب أن يكون عليه دورهم في هذه الملمات التي لا يواجهها إلا ربانيون أحرار.

مضى المخطط الصليبي الحريري الناعم فأحيطت الأمة بقواعد عسكرية من كل حدب وصوب؛ برًّا وبحرًا وجوًّا؛ إخلاؤها وإجلاؤها يحتاج عقودًا طويلةً من الكفاح المرير.

في ظل هذا الواقع برز تصور يقلل- مستهينًا- بنظرية المؤامرة، التي لم تُؤْتِ ثمرتها إلا في واقع أمتنا تخلفًا وهوانًا.

ومع الاستخفاف بنظرية المؤامرة وإسقاطها من تصور حجم الخطر الآتي من الخارج، برز تصور مساعد ومشاكل، وكأنه مطلوبٌ لتطويع النفسية المسلمة على وضعيتها المتخلفة؛ هذا التصور هو إشاعة ثقافة التسامح والتعايش مع الآخر، وهي ثقافة حق، لكنها تأتي في غير زمنها أو ظرفها؛ لأن طرح هذه الثقافة بإلحاح، وخاصةً من قِبل بعض الرموز، بدأ يشكِّل تيارًا لا يتجاوز موقفه حدود هذه الثقافة، دون معرفةٍ بضوابطها وظروفها والأجواء التي يجب أن تفعل فيها، فَرَقَّ الشعور تبلدًا تجاه الأحداث الدامية، أو استخفافًا بالخطر القادم.

فقد أسقط هذا الطرح وضعًا مزريًا وحالةً مؤسفةً من الاستنفار الأممي ضد هذه الأمة وثروات شعوبها، مما كان يقتضي ثقافةً مغايرةً وتأهيلاً مغايرًا ليس منه السماحة والرفق، بل له مقتضى آخر من ثقافة المقاومة والممانعة، لكل مخططات الآخر الذي لا يبدو أمامنا إلا معتديًا عدوانيًّا مستنفرًا، ورغم ذلك يسود خطاب تخديري للأمة ليكون وضعها البائس بالتراضي بين الضحية والجلاد.

في هذا الجو سادت ثقافة الحلول البطيئة، واستبعاد الحلول الفاصلة، والمواجهات الحاسمة، برغم الخطى المتسارعة للاستهداف الهادم بقوة تدميرية لمقومات الأمة النفسية والشخصية، قيمًا ومثلاً وهويةً، ومُرِّرت الكثير من مشاريع نهب الأمة وتفريغها دون رد فعل مدوٍّ أو موقفٍ مُحجِمٍ لنهم المعتدي.

ومع هذا التنويم بصرف الشعوب عن حقيقة مأساتها في تخلف وضعها الحقوقي الذي لم يَرْقَ إلى مستوى الوضع الحقوقي للحيوان لدى هذا الآخر، محل عناية ورعاية وإشادة الطرح التخديري، الذي لم يَعْنِه كثيرًا الوضع المتقدم للإنسان هناك وما عليه الإنسان من رقي بما لديه من رصيد ضخم من الحقوق والحريات، التي لم يمس تخلفنا فيها بشيء من اهتمام الطرح التطويعي، وكأنه يُراد لهذه الشعوب ألا تقترب من هذا الرصيد لتحقِّق منه أي نصيب، وعليه لم يظهر الدين في معركة الحريات والحقوق الإنسانية كفاعلٍ ومؤثرٍ ومُوجِّهٍ لتلك الشعوب لاستعادة حريتها وكرامتها، بما يشكِّل لديها قناعةً تفوق حرصها على لقمة الخبز.

هنا، ومع تتبع نوع من الأطروحات الإصلاحية لدى أصحاب الخطاب الديني، لا تكاد الحريات تعنيها في قليل أو كثير، ولا تكاد تبرز أية تعبئة للشعور المسلم بحقه في أن ينعم بما تنعم به شعوب أخرى.

لقد رصد الخطاب الديني خلل الأمة، وقصره على عجز الأمة عن تحقيق تقدم ملموس كالذي صنعته أوروبا وأمريكا في مظاهر الحياة المادية، وجلد ظهر الأمة بنكوصها عن اللحاق بركب النهضة الحديثة، واعتمادها على الآخر في كل شيء، مستبعدًا إحداث أي تغيير ما لم تصل الأمة إلى مستوى الحضارة الغربية في تقدمها المادي، وأسقط- للأسف الشديد- من طرحه أن الغرب لم يصل إلى ما وصل إليه في ظل استبداد السلطة وهيمنة وطغيان الكنيسة، بل حقَّق كل هذا عبر عقود وقرون من الكفاح ضد سيطرة السلطة الدينية والمدنية، وشيوع الحرية التي جاءت بلا أي ضبط لفروق ما بين الحلال والحرام.

وأمتنا تعيش قريبًا من هذا الاستبداد مع فارق هيمنة الكنيسة التي تبدو عندنا في سوء توظيف المؤسسة الدينية للدين، بما يمكِّن استبداد الأنظمة، بل ويطوِّع الشعوب للقبول به.

لقد غابت قناعات كثيرة عن الخطاب الإسلامي في رؤيته الواضحة للآخر بحسب موقفه منا؛ لأنه على طول الخط فاعلٌ فينا ومبادرٌ بالعدوان علينا، وما نحن إلا رد فعل لهيمنته وابتزازه.

وليس منطقيًّا أن تطالب ردود الأفعال بوتيرة واحدة ولغة وحيدة وموقف واحد بغض النظر عن اختلاف الفعل من السيئ إلى الأسوأ؛ مما شكَّل نوعًا من رد الفعل غير المسئول لدى شعوبنا تجاه قضاياها مهما اتصلت بإنسانيتها.

إن وجود إيجابيات لهذا الآخر لا تعني بالضرورة- كما يزعم البعض- التعامي عن هذا الزخم من السلبيات المتراكبة والمتراكمة تجاه أمتنا؛ فمواقفنا منه لا يجب أن تخضع لسطوة تقدمه ومدى احتياجنا إليه فقط؛ إذ لا تخلو أمتنا من حاجاته هو الآخر إلينا، وهي بالنسبة له احتياج أشد بل وحيوي، كما أنه لا يجب أن يخضع لمنطلق واحد، وخاصةً أن المنهج الإسلامي من التنوع بحيث يستوعب ويتعاطى مع كل موقف بحسب ما يقتضيه، لكن تأطير الأمة على نسق واحد من ثقافة واحدة من شأنه أن يستدعيَ ثقافة مناقضة، ولا يكون بين الثقافتين أي وسط يمكن التحرك فيه بالضبط.

من هنا فإن أحداث غزة بكل بشاعتها جاءت لتوقف البعض على تصور صحيح كان ينبغي الإعداد له، من أجل توفير جاهزية ما لظرف ما وحالة ما تعني التوظيف الصحيح والفاعل للدين في هذا المعترك.

لقد كشفت محرقة غزة- على فظاعتها- بما لا يدع مجالاً للشك عن تواطؤ الأنظمة ذات الارتباط بدائرة الأحداث وقريبًا منها بلا استثناء ضد هذه الأمة يعمل لحساب أمن "إسرائيل".

لقد صح ما قيل- والذي كان مستغربًا- عن الاستحقاق الأمريكي لدى هذه الأنظمة مقابل البقاء حتى لو كان الثمن تلك الأنهار الجارية من دماء المسلمين دون أن يهتز لها أي طرف، وصح القول بأن حماة الكيان الصهيوني لم يكونوا يومًا سوى هذه الأنظمة، وإلا فإن أحداث المجزرة في غزة على هذا النحو لا يحتاج إلى تدليل على احتلال بالوكالة؛ لا يعذر فيه أحد مهما توالت عمليات جمع التبرعات من هنا وهناك؛ للتغطية على الإثم الأعظم والأخطر في النكوص عن نصرة إخواننا بالسلاح، والجبن عن رأي تُحاسب عليه الأنظمة قبل أمريكا.

ومن هنا فإن مصر وحدها لن تكون في موقفها ستارًا يتغطَّى به الجميع كي لا تنكشف السوءات والعورات، إن لم يكن تواطؤًا فخذلانًا وجبنًا وتخليًا عن واجب النصرة الذي يقتضيه الحدث الأبشع لا غيره.

إن كل أنظمتنا مشاركة في الإثم، قربت أم بعدت، مهما حاول البعض التستر ببعض الممارسات ليخفِّف عنه الوزر أو ليُجمِّل الوجه القبيح؛ فإن الحقيقة ستكشف المزيد من التواطؤ الذي يصل حد الخيانة، وأن مصر ليست وحدها من يتولِّى كبْر هذه المجزرة، فثم نظام عربي يعمل بوكالة أمريكية كحليف من الدرجة الأولى، يلعب أدوارًا قذرةً بضلوع كضاغط وفاعل أصيل، وإن بدا غير ذلك؛ لنجاحه الدائم في تكتمه، وقدرته على تجفيف غسيله القذر في مجففات محكمة دون حاجةٍ إلى نشره في الهواء الطلق.

لقد جاءت محرقة غزة لتضع الأنظمة والمؤسسات الدينية- رسميةً وغيرَ رسميةٍ- على محك واقعي للتعرف الحقيقي على طبيعة موقفها من قضايانا المصيرية، بما لا يدع مجالاً لترويجها وتكريسها عبر ممارسات لا ترقى لأي مستوى من استقلال الإرادة والقدرة على اتخاذ قرارات فاصلة وتقديم حلول جذرية يقتضيها وضع الأنظمة في قيادتها المدنية، ووضع مؤسسة الدين في حسن الضبط والتوجيه للمواقف والأفعال بحسب مقتضى الشرع ومقاصده دون قفز أو تعامٍ عن الحقائق والوقائع، بمبررات هي إلى التلبيس والتدليس والتضليل أقرب منها إلى الاجتهاد المحترم والمتجرد من الهوى والزيغ.

لقد تجاوزت مجزرة غزة موقف الأنظمة والمؤسسة الدينية رسمية وغير رسمية، لتسقطهما من حسابات الشعوب التي يجب أن تصنع واقعها وحدها دون انتظار توجيه من هذه أو تلك؛ فليست إحداهما بأحرص من الأخرى على كرامة وحرية الأمة ومصالحها.

لقد آن لشعوبنا أن تكون لديها جاهزية لتقديم الثمن مهما كان غاليًا من أجل استعادة حقها في العيش الكريم والتمتع بما وهبها الله من حرية وكرامة0 ترفل فيها شعوب أخرى، وتتفيَّأ ظلالها برغم سعار مادي مُخِلٍّ، وبرغم تحللٍ من دين، بما يُلقي بظلال الشك على قيم الإسلام؛ لكون الاستبداد والاستعباد صفات لصيقة بشعوبه تكتوي بنارها حرمانًا وفقرًا وتخلفًا، أغرى الآخر بها وشوَّه قيم الإسلام المُغيَّب عن سلوك الأمة ومنهج حياتها.

نعم.. مجزرة غزة أيقظت النائم في العمق الداخلي لدى الشعوب المسلمة كلها، وبدت جميعها في ردود أفعالها متناغمة مع مقتضى الأخوة، رغم محاولات التقسيم والتجزيء لخلق فواصل بينها دون وحدتها الدينية.

لقد اتضح من خلال المجزرة أن الأمة قد عادت إليها الحياة رغم محاولات التمويت المستمرة لتكريس وضع حرام؛ ما كان للأمة أن تصل إليه لولا احتلالٌ بالوكالة؛ برَّره ومرَّره وكرَّسه غياب أو تغييب الشرع عن مقتضى الأحداث.
---------------
طالع المقال على موقع : إخوان أون لاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق