الجمعة، 4 نوفمبر 2011

بين الحرم والتحرير

بقلم : ماجدة شحاته  
 يوم تخلفتُ عن حضور وقفة عرفات لظروف لم يكن بالإمكان تجاوزها  ،جلستُ إلى شاشة البث الحى وصدرى يجهش بالبكاء  ، وروحى تكاد تنزع نفسها إلى هناك مع تلك الجموع الغفيرة التى ستنهض آخر اليوم فى ركب محلق متجه صوب الحرم حيث تلتحم الأجساد بينما تتعانق الأرواح فى علو نحو السماء.

وهكذا كنت أرقب ميدان التحرير فلم أصطبر حتى تنفس الفجر فأعددت العدة لأرافق زوجي ، إذلم يعد فى قوس صبرى منزع ،  نفس الأحاسيس التى كانت تنتابنى وأنا في الطريق إلى عرفة  ، نفس المشاعر التى تستبق المسافات وأنا فى اتجاهى إلى الحرم  .

وهنالك فى الميدان حط الركب استكانت النفس ورقَ الحس  ،وانهمرت بينى وبين جوانبى حوارات همس غير أنها تستجيش الفكرة ، وتستدر الدعوات اللاهجة ، مختلطة بالدمع  ،مختنقة من الخوف على تلك الحشود المتوافدة، والتى تتراص وتتلاحم فى تواد وتراحم على غير نسب بينها ولا رحم ، وعلى غير هوى أو مصلحة الكل يعرف الكل  ، فلا أحد يستغرب أحدا، الهتافات لا تتوقف برغم بحة الصوت إذ لا تكاد تضعف نبرة الصوت حتى ينضم بلا ترتيب من يكمل الهتافات بجديد مغاير، يبعث على المواصلة فى دأب ودون كلل،  الأرواح لا تفتر والأيادي لا تستقر، لافتات التنديد تتباين بحسب مستوى وعى حاملها وكاتبها فتصل للذروة من التخصص مسلطة الضوء على ما يأتي  به التنديد عرضا بينما هذه تأخذ على نفسها مهمة ترسيخ الوعى ولفت الانتباه بكلمات نوعية منتقاة ومختارة بعناية فى لغة فصحى شديدة الدقة ، وكأنها تعني شريحة على درجة عالية من الفهم ربما غفلت عن مكمن الخطر فيما تندد به ،فتريد تركيز الفكرة من خلال أوراق  يتم عرضها ورقة ورقة، وبرغم أنها لا تزيد على ثلاث جمل لكنها تشكل رؤية فاحصة تنبئ عن تكامل الوعى لدى الجميع وعلى حين تتأمل لافتات أخرى تجدها وقد انتزعتك انتزاعا  مما أنت فيه من تركيز الفكرة ؛

لتثير فيك روح الدعابة إذ لا تراك حيالها إلا وأنت تبتسم فى نفسك من قدرة هذا الجمع على مزج الثوري المنتفض بالثوري الهادئ الساخر .

وعلى حين تتابع النظر والتأمل تقع عينك على مهمة ، ربما لم تتكررلكنها تعكس أصالة  الهم لدى الثوار، مهمة غريبة  نادرة، ربما لم يشر إليهاأحد ،إذ يمر رجل بين اللوحات واللافتات يصحح الكلمات تصحيحا إملائيا باقتدار مستعملا قلمين بلونين مختلفين ، بحيث يكون التصحيح بلون مخالف للون اللافتة .

برغم الزخم  الثوري والدماء التي أُريقت ومشاهد القمع والبطش والاستخفاف بالإنسان على نحو تلك سيارات الشرطة  التي كانت تفرمذعورة فوق أجساد البشر، هذه المشاهد التي لا تكاد تفارق مخيلتك لكنك هنا في الميدان تحس بمشاعر مغايرة ،إذ هنا ينتابك الشعوربالأمن والاطمئنان ، وسكينة النفس والروح، وإحساس بمزيد صفح وغفران ..

 تهب النسمات فتحسها رحمات كتلك التي تتنزل عليك فى روضات المسجد ومجالس الذكر ولحظات التأمل والفكر كتلك التى تجدها وأنت بالحرم..

إن في الميدان شيئا آخر يتمايز عن ذلك الذي  أتيت منه ، إنه مختلف فى كل سماته وقسماته ودلالاته لأن سماء الميدان وجوانبه تبدو وكأنه قد تنزلت عليها الملائكة ، وحفتها البركة  فغشى الجميع السكينة واليقين بـ :أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

في الميدان وجدت أرواحا شفيفة ترقُ فى سلوكها اليومي  مع بعضها البعض  ، حتى لتصافح الملائكة.. هم اجتمعت عليه القلوب وتوحدت من أجله الرؤى  ، وتسامت النفوس في استعلاء على كل ألوان الخلاف لتكون مطالبها واحدة ، لا تخفت نبرة دون أخرى عن المطالبة بها فى إصرار وتحد، حتى لتبدو وكأنها تملك ما يفوق النظام من أدوات القوة،إنها تملك الثقة  بوعد الله ، الثقة بسنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول ،  وقد آن لها أن تفعل فعلها في نظام استحل كل حرام ، والميدان على هذه الشاكلة  من الرباط والتلاحم والمثابرة ، على توقع الأذى والخطر هو إيذان بتنزيل النصر  "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"

تغادر المكان آخر الليل فما تلبث أن ينتابك إحساس بالندم ،وما تكاد تستقر بالبيت حتى يتجدد الشوق إلى هناك ، ويعصف بك الحنين فلا تجد مفرا من التأهب للعودة ثانية ،ولا تسكن نفسك حتى تستقر هناك تؤدي شعيرة الوقت وفريضته ؛ لتستمر الثورة متقدة مشتعلة حتى يرحل النظام مهما يكن الثمن .
-------------
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق