الخميس، 22 أبريل 2010

تهويد القدس وخطابنا المتآمر


بقلم : ماجدة شحاته
منذ مؤتمرات أنابوليس أعلنت إسرائيل أن القدس لابد أن تكون عاصمة يهودية محضة، في إشارة إلى وجوب إخلائها من المسلمين، ومنذ ذلك الحين وإسرائيل تتخذ من التدابير ما يحقق هدفها في تفريغ القدس من أي أثر إسلامي، وإحلاله بآخر يهودي في محاولة لطمس الهوية،من حيث الرسم والاسم لأي معلم إسلامي، ولأن ذاكرة الأمة مثقوبة بشكل لم يعد يجدي معه الترقيع، الذي يتسع على كل راقع، مما جعل الأمة في تغييب تام للعقل والإدراك والاستقراء الواعي للمخططات الإسرائيلية تجاه القدس الشريف.

وتبدو خطورة الإجراء اليهودي بتهويد القدس أنه يتم في جو نفسي خامد وخامل لدى شعوبنا، ودون مقاومة تذكر من أي فعاليات عربية أو إسلامية، اللهم إلاّ ردود فعل هنا وهناك لا تنتظمها خطة، ولا تدفعها قناعة أو فكرة،

حتى ولو كانت وراءها فكرة فالمسألة صارت أقرب إلى الإعذار منه إلى تحمل تبعة البيان، إذن ليس ثم ما يتهدد إسرائيل، وميزان القوى في صالحها، فهي مطمئنة أن ردود الفعل لن تكون بأقوى من إعلانها دولة إسرائيل عام 1948م بعد إجراءات كانت أشد تنكيلاً وتهجيراً وتشريداً وتغييراً في ديموغرافية الأرض والسكان، ولم تتوقف إسرائيل على مدى ستين عاماً منذ التأسيس عن سياساتها القمعية والتوسعية على حساب الأرض والعرض، في إجراءات عنصرية بغيضة تقفز على كل شيء، وتجرف في طريقها كل شيء حتى لو كان الإنسان نفسه، مهما اختلف لونه وجنسه ـ راشيل كوري مثالاً ــ وعلى الرغم من أن المخطط اليهودي ماضٍ إلاّ أن السياسة الأمريكية ومعها إسرائيل ونظم عربية عميلة استطاعت أن تدخل العرب في نفق السلام الذي تعفّنت جثّته، منذ أوسلو وأخواتها، واستطاعت من خلال تغيير قناعات فصائل المقاومة أن تضطر هذه الفصائل لهدنة بين الحين والآخر، بزعم وبمبرر لم يثبت فاعليته للآن، وهو فن التحرك في الممكن والمتاح، في إسقاط غريب لحقائق طبائع يهود التي تؤكدها الأحداث بكل دليل وبرهان (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). [المائدة: 64]. (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ). [البقرة: 217]، (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ). [التوبة: 8].

الغريب فيما يحدث بساحات الأقصى أنه يتم برغم جرمه وفداحته، والأمة في حالة التفات عن رؤية محددة تنطلق من ثوابت شرعية في النظر لمعتد محتل، يقفز على اتفاقيات، ويضرب عرض الحائط بمبادرات، ولا يرعى ماء وجه نظم لدى شعوبها فيحرجها بشتى السبل المستفزة، فيستبيح الأرواح والأوطان والأعراض والمقدسات، غابت هذه الرؤية ليس بسبب قصور المرجعية بمصادرها الموثوقة؛ بل لأن تنحية هذه المرجعية عن التنزيل على واقع الأمة غدت مطلباً من ضمن مطالبات كثيرة لتجديد الخطاب الديني في عصر الأمركة الصهيونية.

وبدا أن المسألة ليست في إطارها الصحيح من حيث الوصف أو المعالجة، فثم خطاب إسلامي يحمله كبار يتصف بلجمه الحقيقة وخرس البيان والدوران حول محاور لا تقترب من تفاصيل هذه الحقيقة، بل وتحجيم أي عملية اقتراب بدعاوى لا تجد من يفككها على محكّات النص وثوابت التاريخ ووقائع الأحداث، من هنا ظلت الأمة منصرفة عن مأساتها لتمتد على مدى حقبة ما بعد الاستخراب الغربي، في ظل احتلال بالوكالة، فليس ثمة فرق بين ممارسات الأمس واليوم لدى المؤسسة الدينية رسمية وغير رسمية، والأخيرة ظلت عاجزة عن توظيف مالديها من أجل نهوض بالأمة من حالة هوان الإنسان المسلم وإهدار كرامته وحقوقه، والتي ظلت جميعها خطاً أحمر لا تقترب منه مع أولويته وحتمية الانطلاق من خلاله كقاعدة لدعوى الإصلاح والتغيير.

خداع الأمة عن عدوها الحقيقي عملية تُمارس في كل وقت بحسب ما يسود فيه من مناخ وما يناسبه من خطاب؛ لتطويع وتدجين تتحمل نخب الخطاب الديني ودعاة الإصلاح أعظم المسؤولية عنه، بما تأهلت به، وما تربعت عليه من نواصي الإعلام، فأصبحت رموزاً لا يُستهان بها، وعلى الرغم ذلك فإن خطابها لا يأتي إلاّ كرد فعل منتفخ الأوداج بلا حمرة دم غيرةً على الأعراض والأرواح والمقدسات، أو هو كفقاقيع هواء لا تلبث على ضخامتها إلاّ أن تتلاشى على توصيف باهت ومعالجات ملتوية تجبن عن كلمة حق تتحمل مسؤوليتها في وقت غدا فيه جهاد الكلمة وفصل البيان في مآسي الأمة من أوجب واجبات من يريد تنزيلاً صحيحاً لعقيدة الولاء والبراء.

لقد تم تطويق خطابنا الديني - أقصد الشرعي والحركي منه بشكل خاص- من خلال فرية الإرهاب التي مازلنا نتعقب بعضنا في اتهام صريح بعنفه وإرهابه وضلاله وخطره، في إسقاط متعمد وغَضّ طرف مقصود عن إرهاب الدولة وإرهاب أمريكا ومعها الغرب وإسرائيل.

لقد بدا لبعض أصحاب الفضيلة أن يحسّن صورة الإسلام من خلال خفض النبرة وتفريغ الكلمات الشرعية من دلالاتها؛ لتكون أخف وقعاً على مسامع الآخر الصهيو غرب أمريكي، فتفتّقت لغة الخطاب عن مهادنة تأباها الفطرة في التعامل مع المحتل المغتصب، وأصبحت مصلحة الإسلام وتحسين صورته تمر عبر لغة مائعة خافتة تجبن عن قولة حق أو وصف صحيح، وتستحي أن تقترب من إسقاط مقتضى الجهاد؛ لتصرف الكلمة عن دلالات يستوجبها الواقع، وتفصل بين واقع مأساوي ومطالبات بنهوض لا يمكن أن يحدث في ظل هذا الواقع.

إن ضخامة ما يحدث في القدس لم يجد لا في واقع السلوك الإسلامي ولا في لغته وخطابه ما يضارعه أو يساويه، على الرغم من الأحداث المتلاحقة والتصريحات الفاضحة بإجراءات معلنة ضد الأقصى، مما يعني أن عملية تجديد الخطاب الديني آتت أكلها في تخدير الشعوب عن الوعي بمؤامرات المحتل، من خلال غض الطرف عن اعتبار نظرية المؤامرة أحد عناصر تخلف الأمة في تبرئة لذمة الغرب مما نحن فيه من فساد وكساد على مستوى كل الأصعدة، ومن ثم تحمّلت الأمة وحدها أسباب تخلفها، وعليها -بعيداً عن النظم والحكومات- أن تنهض من كبوةٍ صنعتْها بيدها لا بيد مؤسسات الحكم هنا في الشرق أو هناك في الغرب، مما طوّع الشعور نحوها بقابلية متخاذلة، وقبول مستسلم، وتعايش مذلّ يستبيح الأمة بأي طريق.

إن الخطاب الديني بمؤسستيه الرسمية وغير الرسمية غدا متآمراً على الأمة حين لم يغضب لاستحلال الآخر ثروات الأمة وأعراضها ومقدساتها، وحين غضب فقد جاءت غضبته جوفاء متخاذلة مستنيمة لا توظف فقهاً، ولا تنزل نصاً على حالة واقعة تتعامى عن رؤيتها، وهو متآمر حين استعدى النظم الحاكمة على اجتهاد تسبب العداء له في الانجراف به عن بدايات كانت جديرة بحسن التوظيف من أجل تأصيل فقه المدافعة والممانعة للمحتل وشركائه وداعميه بالمال والسلاح في الغرب والشرق. وهو خطاب متآمر؛ لأنه سكت عن حقوق العباد وحرياتها المسلوبة وأعراضها المنتهكة وكرامتها المستباحة، بل عجز عن أن ينفعل بمعاناة الشعوب في كدها اليومي واختطافها من دينها وتعبيدها لنظم تستأثر بالثروة والسلطة، وهو خطاب متآمر؛ لأنه اندمج في فلك أجواء ما بعد سبتمبر، فانحنى وانثنى ليؤكد على براءة الإسلام من خصائص العزة والشموخ والكرامة، تلك المترادفات التي توارت من قاموسنا اللغوي والنفسي في تخديم متعمد أو حسن النية على تدجين الحس المسلم وتخديره، ليرضى في استخذاء واستسلام لهيمنة أمريكية وصهيونية لا تحتاج دليلاً على إثباتها.

إن صناعة الموت الشريف على النحو الذي يعبئ النفسيات لتضحية، ويرسخ جاهزية نفسية لملاقاة عدو أو دفع خطر على دين، لم تعد في أدبيات خطاب ما بعد سبتمبر، وغلب على كثير فريق منه لغة أن تكون الحياة في سبيل الله أمنية بديلاً عن الموت، في تهوين من شأن تلك الأمنية، وفي دعوة رخوة للانحياز للحياة، على الرغم من أن حياة شعوبنا أقرب لحياة الحيوان مغموسة بذل وهوان لا يتمعّر لها وجه فقيه أو داعية إلاّ القليل..!

وأما الممات الذي يغيظ العدا فضرْب من التهوّر والنزق، وقفز على معطيات واقع، ومن ثم خَمَد فكر المقاومة ورضي بدور شبيه بدور سلطة جيء بها كشرطي أمن لحماية إسرائيل، وكأنه كان مطلوباً على مدى عقود مضت أن يدخل الخطاب الديني نفس نفق السلطة الهشة، ولكن بمسوّغ إسلامي هذه المرة يخدع حس الشعوب عن شعور بجرم المحتل؛ لتصبح المواءمات السياسية بين الإسلاميين والنظم المستبدة هي الحاكمة وليست ثوابت الشرع.

إن المقاومة وحدها تلك التي يساندها فقه جهادي يعظم الموت في سبيل الله، ويسترخص الأنفس والأموال من أجل هذا الدين، ولا يستسلم لضغط الواقع أو يفت في عضده ارتفاع وتيرة ضربه وسحقه، هذه المقاومة هي التي تحيي الموات، وبها تبعث الأمة من جديد، فلن تموت أمة تقاوم مهما أُلحقت بها الخسائر، ومهما أُضيرت فإن الحقوق لا تأتي عفواً، ولا وفقاً لمفاوضات يملك ناصيتها العدو تفعيلاً أو تجميداً.

ويبقى التعويل على نخب تؤمن بالمقاومة حلاً وحيداً أن تصطف ضد عمليات نهب الأمة واحتلالها، فعلى صخور المقاومة ستنكسر شوكة المحتل حين توقع به الخسائر، وإن من أبسط حقوق الإنسان أن يدفع عن نفسه عدوان الآخرين بكل وسيلة، وأن تتداعى الشعوب المسلمة كالجسد الواحد ضد ما يرتكب في حق أحدها، وأن تتنزل الأخوة بكل مقتضياتها لتكون الحقوق والواجبات في حسّ المسلم واضحة بلا تلبيس، وألاّ تتأثر هذه التنزيلات من أحكام فقه الجهاد بقوى في الداخل أو الخارج، فالشعوب المقاومة من أجل حقوقها السليبة هي وحدها التي تُحترم من الآخرين، أما من يسهل الاحتلال، ويعين عليه، وينشر ثقافة الخنوع والاستسلام، ثم يبكي على ثروته المنهوبة وأعراضه ومقدساته المنتهكة فلن يُسمع له مهما علا شجبه وصراخه لممارسات تمت باتفاقات وتمريرات وتسهيلات من أصحابها.

"على إسرائيل أن تعاني من هزيمة ليمكنها أن تقدم تنازلات ". هكذا قال نورمان فنكلستين اليهودي في استنفاره للجهد العربي ليستردّ حقوقه، بعدما رأى من ممارسات إسرائيل، وتخاذل العرب عن اعتماد خيار المقاومة كخيار وحيد لا يرى غيره للخروج من النفق، وإلاّ صاروا عبيداً لأمريكا وإسرائيل- على حد تعبيره.

ومن غير هذه المعاناة ستظل إسرائيل تعربد في مقدساتنا مادامت ردود الفعل على النحو الباهت الذي نرقبه، سواء على المستوى الرسمي أو الحركي والدعوي، وما دمنا نلتف حول النصوص دون الاقتراب المباشر لفرض المقتضى الصحيح الذي يمليه واقع الأمة.
--------------
طالع المقال على موقع : الإسلام اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق