السبت، 12 أبريل 2008

قراءة في مراجعات " فوكوياما " حول الأسرة

بقلم : ماجدة شحاته
رأس المال الاجتماعي: هو مجموعة القيم الخلقية الثابتة التي لا مناصَ عنها لنجاح أي نظامٍ سياسي أو اقتصادي، وفي كتابه (الانفراط الكبير) الذي أصدره بعد (نهاية التاريخ) متراجعًا عن كثير مما جاء في الأخير، يُرجِع فوكوياما إلى هذا المصطلح سبب التمزق الاجتماعي الذي يسود في الغرب، ويرى أنَّ الاجتماعَ الإنساني من أجل التعاون على تحقيق المصالح لا يمكن أن يتأتَّى إلا بالالتزام بمجموعة تلك القيم الخلقية وأنها ليست: ( مجرد قيود تحكمية على الاختيارات الفردية, بل شرط سابق لأي عملٍ تعاوني ) *

إنَّ التزامَ معايير خلقية من وجهة نظر فوكوياما ليست متروكةً لاختيار الأفراد، بل لا بد من إلزام المجتمع بها ليخطوَ في مساره الصحيح، وقد لاحظ فوكوياما أن سبب التمزق الاجتماعي في الغرب وعلى نطاقه الواسع إنما يعود إلى: ( التحوُّل الثقافي والتحوُّل القيمي متمثِّلاً في اشتداد النزعة الفردية، وأن أشد وأعظم تأثيرها كان على العلاقات بين الجنسين والأسرة على وجه الخصوص ) *

وإن مظاهر الانفراط أو التمزُّق نشأت كلها تقريبًا عن التفكك الذي أصاب الأسرة، غير أنه لا يبرِّئ ساحة التطور العلمي؛ إذْ تبدو آثاره في هذا التمزق من خلال حبوب منع الحمل والإجهاض الآمن.

يقول فوكوياما: ( إن حبوب منْع الحمل وتوفُّر الإجهاض أَذِنَا للنساء لأول مرةٍ في التاريخ بأن يتعاطيْن الجنسَ بلا خوفٍ من العواقب، وإنَّ هذا جعل الذكورَ يشعرون بالتحرُّرِ من القيم التي كانت تفرض عليهم مسئولية العنايةِ بالنساء اللائي حملن منهم ) *

ويقول أيضًا: ( إنَّ الذي كان يمنع النساء من استبدالِ زوجٍ يُناسبهن مكان الزوج الذي عشن معه ويكتشفن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكنَّ قادرات على الإنفاق على أنفسهن؛ بسبب أنهن لم يكن يعملن، فلمَّا عملت النساء وصارت دخولهن تزداد باطِّراد وجدن أنه بالإمكان أن يربِّين أطفالهن من غير عونٍ من الأزواج ) *

غير أنَّ إنجابَ الأطفال يقلِّل- من وجهةِ نظره- من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تُنجب المرأة إما ألا تعمل إطلاقًا وإما أن تتوقف عن العمل لفترات, فإذا كانت حريصةً على العمل فإنها ستلجأ إلى الحدِّ من الإنجابِ، ومن ثَمَّ فإن قلةَ عددِ الأفراد تزيد بدورها من احتمالاتِ الطلاق؛ لأنَّ الأطفالَ هم رأس المال المشترك بين الزوجين.

ويقول: ( إنَّ هناكَ دلائل تجريبية كثيرة تؤكِّد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب خارج نطاق الزوجية، ثم إنَّ زيادةَ معدلات الطلاق تؤدي بدورها إلى عدم ثقة النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلى تأهيل أنفسهن للعمل كي يضمنَّ مستقبلهن ) *

ويرى أن: ( قائدات الحركة النسوية قد بالغن في إطراءِ عمل المرأة، وغفلن عن تأثيره على الأطفال، وهو تأثيرٌ لازمٌ وواقعٌ، وسيستمر كذلك حتى يتطوَّر العلم، فيرحهن من عبء الحمل والإنجاب!! ) *

على أن فوكوياما يرى أن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعية تتمثَّل في أمرين:
أ- ‌السياسات العامة التي ترسمها وتنفذها الجهات المسئولة.
ب- ‌الثقافة الشائعة بين المواطنين وما تتضمنه من قيم.

ويدلِّل على ذلك بقوله: ( إن كوريا واليابان وبعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن تقلِّل من تأثير التطوُّر التقني بسبب اختلاف ثقافاتها الشائعة عن التي في المجتمعات الغربية ) *

هنا تبدو أهمية الخصوصية الثقافية والمحافظة على أصالتها دون طمسٍ أو تشويهٍ أو تذويبٍ، وإلا ما استطاعت الوقوف كحائط صدٍّ ضد تيار التغريب والتخريب الموجَّه لمثل مجتمعاتهم، وإن محاولات الاقتراب من هذه الخصوصية بعولمة كثير من قضايا المرأة دون تمييز بين تلك الخصوصيات واحترامها والحيلولة دون تشريع ما يقفز عليها هو مهمة الدعاة؛ لتظل مجتمعاتنا تحت تأثيرٍ أقل، سواءٌ من موجات التغريب الثقافي أو التطور التقني.

يعود فوكوياما إلى التفاؤل بشأن عودة المجتمعات الغربية إلى قيم خلقية لا بد أن تنموَ، وأن الانفجار القيمي والاختلال الخلقي الذي ساد في فترة ما بين الستينيات والتسعينيات من القرن المنصرم هي آخذة في الانحصار، ويرصد ذلك الانحسار من خلال: تباطؤ معدلات زيادة الجريمة، والأطفال غير الشرعيين وفقدان الثقة.

كما أن تحولاً كبيرًا يرى أنه حدث في آراء الأكاديميين عن الأسرة والأطفال وتحمُّل مسئولياتها؛ فقد صارت أصواتٌ تنادي بها على عكس ما كان في الماضي من سيادة ثقافة عدم الخضوع للضوابط الاجتماعية وتغليب النفس وشهواتها على الأسرة؛ فالثقافة السائدة- من وجهة نظره- هي التي أفرزت ( صورًا إدراكيةً أعمت الناس عن رؤية الآثار الضارة لسلوكهم الخاص حتى على أقرب الناس إليهم، كما أنها صوَّرت الحياة العائلية التقليدية بأنها مرتع للقهر والنفاق، وهذا كله لا يمكن تغييره فقط بالحجج والبراهين، لكنه يحتاج إلى حروب ثقافية لتحل ثقافة مكان أخرى ) *

ويرى فوكوياما أن ( إعادة تكوين النظام الاجتماعي لا يتم بجهود الأفراد وحدها، بل لا بد من أن تساعد عليه السياسات العامة للدولة ومناهج التعليم ) *
لكنه يرى أن العودةَ لقيم الأسرة لن يكون سهلاً كما هي العودة لقيمٍ أخرى، ويعلِّل ذلك بقوله:  ( لأن الخوف من الحمل زال بسبب حبوب منع الحمل، ولأن الخوف من أن يعيش الطفل غير الشرعي حياةً بائسةً قد زال بسبب عمل المرأة، والإعانات الحكومية وقلة الإنجاب لن تتغير؛ لأن الوالدين يريان أن من مصلحة أولادهم ألا يكثر أعدادهم ) *

وهنا نقف في مجتمعاتنا على نفس العِلل؛ فقد تفشَّت العلاقة بين الرجل والمرأة خارج مؤسسة الزواج، وشاع تبعًا له ما يُسمَّى بالجنس الآمن للمراهقات بلا قيدٍ من خلال ما يُسمَّى بالزواج العرفي، وانتشار أعداد الأطفال غير الشرعيين (اللقطاء) أو أطفال الشوارع، وتبني الأنظمة- على غير العادة- يومَ اليتيم بلا تفريق، ومن ثَمَّ يتحقَّق الأمان للطفل غير الشرعي الذي ينفق عليه بسخاءٍ دون تحميل الأبوين أي عبء، وسيادة ثقافة الاقتصار على ولد وبنت حتى في أوساط البسطاء وغير المتعلمين..

من هنا لا بد من النظر الحذر لكل مستجدٍّ في قضايا المرأة، وخاصةً إذا كان عبارة عن أحد مطالب مؤتمرات مشبوهة.

إن فوكوياما يربط بين التطور التقني وانحدار معدل القيم، غير أنه، وهو يرصد ظاهرة الانفراط الكبير، لا ينفك يذكر الدين في تشكيل الوعي، بل يعده أحد مصادر النظام الاجتماعي وإن لم يوجد له تأثير فاعل في تلك العودة إلى قيم الأسرة، لكنه حتى وإن تخبَّط بعيدًا عن الدين فحسبه كراصدٍ لحركة مجتمعه أنه يرقب ويعلل ويحاول توجيه مجتمعه إلى ما يأخذ به إلى صلاحه ورقيه بما لا يخالف الفطرة الإنسانية، وهذا ما يفتقده الخطاب الإصلاحي لكثرة مَن مدعي الاهتمام بالشأن الاجتماعي حين تعتمد ثقافة ومرجعية بعيدة كل البعد عن مرجعية أصيلة؛ هي دين هذا المجتمع، ألا وهي الإسلام.

ففوكوياما رائد لا يكذب أهله، وكم من كَذِبَةٍ في واقعنا هم تجار قضايا حق يريدون به الباطل حين يكونون هم وكلاء الآخر عنه في مسخ وتشويه هوية المرأة المسلمة.
هوامش :
* نقلاً عن كتاب "الإسلام لعصرنا" لفضيلة الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس
-------------------
طالع المقال على : منتدى الإسلام اليوم
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق