السبت، 22 فبراير 2003

ضعف وتردد

بقلم : ماجدة شحاته
في غرفته المتهالكة التي يستأجرها في مغتربه ، جلس أبوهمام يرتشف كأس شاي أعده لتوه ، ثم أخذ ببعض كسرات من خبز يسد بها جوعته ،قبل أن يأوي إلى فراشه ، هم أن يغط في نومه ، لكنه تذكر أنه لم يوتر ، فهب من فوره يتوضأ ليصلي ركعتين أردفهما بوتر دعا فيه وأناب ..

أخذ وسادة ليضعها خلفه فوق سريره المتواضع ، والذي صنعه من بقايا خشب جمعها من هنا وهناك ، فالرجل يعيش وحده ، ومردود عمله الشاق لايسنح له بشئ من حياة كريمة ناهيك عنها رغيدة يسيرة ، حسبه أن يكفي أسرته مؤونة الحياة بلا احتياج ..

أطلق لنفسه العنان لتسرح هنالك في مرابعه الأولى بين زوجه وصغاره ، كلماتهم ترن في أذنيه ، ضحكاتهم تعلو على مسامعه ، يحن إليهم كما لم يحن إليهم من قبل ، ويشتد به الحنين إلى زوجه ، استبد به القلق :
كيف هي الآن ؟ ، وكيف تثابر على لأواء الحياة بدونه ؟

لقد كبر الصغار وكثرت معهم المشكلات ، غير أنها تثابر معهم ، وتناطح في كل اتجاه كي تسلم لها الحياة وتروق ..
غلبته عبرة شوق إليها كاد أن يستسلم لها ، لكنه حوقل مستعينا بالله ، آخذا في ترديد ورده ، ممسكا بمصحفه ، يتلو ماتيسر له ، ثم ما لبث أن وضعه إلى جانبه مستسلما لنوم عميق ..

لم تمض غير ساعة حتى دق الهاتف ، انتبه متململا من طارق بالليل في هذه الساعة المتأخرة ، وفي صوت نائم ألقى السلام ظانا أن أحد زملائه يريده في أمر عارض ..

المكان مظلم ولايدري كم تكون الساعة الآن ..
جاء صوتها في رقة متسائلا :
هل نمت يا أبا همام ؟؟

إنها ليست زوجته ، انتبه من نومه بعض الشئ ، وهو يظن أن أخرى أخطأت الرقم ..
ــ يبدو أن الرقم خطأ سيدتي
ردت في صوت هامس :
ــ بل صحيح يا أبا همام
انتبه بشكل صار معه أكثر وعيا وفي صوت جاد
ــ عفوا ربما تعنين أبا همام آخر ياسيدتي
وفي صوت أكثر نعومة وخضوعا جاء تأكيدها :
ــ بل أنت من أعني ..
ــ وماذا تريدين ؟ ومن أين عرفتني ؟
إن مثلي لايمكنه أن يعرف امرأة تتصل على رجل آخر الليل ..
من تكونين إذن ؟ لالا لا أريد أن أعرف و.هم أن يضع السماعة لكنها عاجلته مقاطعة
ــ مهلا أبا همام فمنذ رأيتك أول الليل في حفل زواج زميلكم ، وأنا أغالب شوق سنين إليك ،
فطالما ردعت نفسي عن مهاتفتك ولكني الليلة لم أستطع فـ....
قاطعها في حدة :
ــ اتق الله ياامرأة ولاتعاودي الاتصال
ثم وضع السماعة في ضيق معتدلا من نومته في ظلمة الغرفة التي لايرى منها شيئا
سرح بخاطره بعيدا
أي بلاء هذا ؟
بل أي فجور ؟
من أين عرفتني هذه اللعوب ؟
إنها امرأة متزوجة ولاشك ، فدائرة علاقاتي كلها لاتتصل إلا بأسر ..
لاشك أنها تعرفك ، بل ترصدك يا أبا همام
حدثته نفسه أن دع كل هذه الوساوس ونم يا أبا همام فمثلها كثيرات ..ولاتلقِ بالا حتى لاتذهب بعيدا فتسئ الظن بزوجات عفيفات ..
ثم إنك يا أبا همام بعيد عن زوجك ، وما أيسر أن تقع في شراكها
ــ نعم نعم والله
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم مدد جسمه وأخذ بغطائه يشده فوق رأسه ، لكن عنت أمامه فكرة أن ينهض ليعرف الرقم من كاشف الهاتف ، فقد تذكر أنه تقدم بهذه الخدمة حتى لاتفوته معرفة الاتصالات في غيبته ..
ـ وماذا ستفعل لو عرفت الرقم ؟
ردد في نفسه
ــ بل أغلق الباب يا أبا همام ألايزال الشيطان يداعبك ؟
ــ وماذا علي فلأعرفه حتى إذا اتصلت ثانية لم أدع لنفسي فرصة الرد عليها ومن ثم أغلق الطريق عليها ..
هكذا تظن يا أبا همام وإن ماوراء أحابيل الشيطان والنساء ماوراءها فتوشك أن توقع فيها
أضاء لمبة لجواره وقبل أن يتحرك نحو الهاتف توقف لحظة
ــ وماذا يا أباهمام لوصدمت في الرقم واكتشفت أنه لأحد زملائك ممن تربطك به صلة حميمة ؟
ــ إنها لطامة كبرى أن تكون زوجة أحدهم
ــ إنها بلاشك واحدة منهن ..
ــ ولماذا أنت متأكد من ذلك ؟
ـ من ذا يعرفك غير بني جنسك برقمك ثم إن طبيعة المجتمع تفرض انفصالا بين الرجال والنساء
فلا فرصة سانحة ليعرفك غير واحدة من زوجاتهم ..
ــ حتى كنيتك من غير إحداهن تعرفها في هذه الدنيا الواسعة ؟

انقبض صدره واجفا مرتعبا ، هم بالضغط على مفتاح الكاشف ، قبض سبابته مضت لحظة كأنها الدهر ، لم يستطع المقاومة غالب هواه وفضوله ، شئ ما بل قوة ما تدفع به ، بل توجه سبابته ، إلى حيث لوحة مفاتيح الهاتف .قلبه يرتجف ، عينه تكاد أن تزيغ .بسط سبابته ضغط على الزر شاشة اللوحة بدت بيضاء ناصعة ، كل العلامات مطموسة لاتوجد أي إشارات لم يسجل أي رقم طوال اليوم ، يبدو أن البطارية قد فرغت والشحن قد توقف ..

زفر زفرة عميقة وكادت صرخة تعلو من بين جنباته ..ارتفع صوته باستغفار مشوب بنشيج
حمدالله ..ثم استسلم ثانية لنوم عميق ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق