بقلم : ماجدة شحاته
رن هاتف البيت على وتيرةٍ ، غيرِ
تلك التي يصدرها عند الاتصال المحلي . اشتدت فرحة الأب مردداً في نفسه : إنه محمد ولدي
الذي يدرس في الخارج .
رفع الأب السماعة متلهفاً ، علت
الابتسامة وجهه للحظات ثم ما لبث أن ودع ابنه بدعوات فاترات ، وبنفس غير تلك التي كانت
في أول الاتصال .
وضع السماعة في تراخ ، وجلس كئيباً
حزيناً .
استعاد الأب ذاكرته ورجع إلى
الوراء خسمة وعشرين عاماً ، نظر إلى صورته المعلقة على الحائط وهو بين والديه - يوم
عرسه - وابتسامة الأبوين تعلو وجهيهما .
تذكر يوم وقف ووالده يستقبلان
المدعوين ، ووالده فرحُ سعيد به ، تذكر ما كان يقوله أولئك له :
" مبارك ياعريس ، العقبى
للبكاري "
تمتم في أسى : البكاري ؟ ! ماذا
حدث في هذا الزمن ؟ ماذا جنيت حتى يحرمني ولدي لحظة الفرح به رجلاً يكمل نصف دينه ،
أهذا أخر تعليمي وتأديبي له ؟
لا .. لا ؛ فلم أكن ملتزماً في
حياتي مثله .. لعل السبب التزامه الذي أعنته عليه ، ولم أحل بينه وبين مخالطة أمثاله
من شباب الإسلام ، ولم أكن - مثل كثير من الآباء - عقبة في طريقه .. أطلقت له حريته
واطمأننت كثيراً إلى طريقته ، فالإسلام لا يأتي إلا بخير ، علمته كيف يعتمد على نفسه
.. صاحبته بالمعروف ، وعاملته رجلاً حتى تخرج في كليته .
لقد كان فرحاً بفرحي يوم تخرج
، ولكني قلت له مازحاً :
ستكون الفرحة الكبيرة يا أبا
حميد يوم زواجك ، ولن تهنأ أمك حتى تراك مع عروسك ، لن نتدخل كثيراً في اختيارك لها
ولكني أبو العريس .. ستكون فرحتي وأمك غامرة يا محمد ، فهيا من الآن نعد لهذه الزيجة
فقد آن أوانها .
لكن محمداً أصر على مفارقتي وأمه
ليزداد قدرة على مواجهة تكاليف الحياة ، ويعيننا على استكمال المسيرة مع إخوته وأخواته
، فقد اشتعل الرأس شيباً .
ولكن ماذا أسمع اليوم منه ؟
يا شقاء أم محمد .. ويا حزنها
لو علمت .. إنها كل يوم تمازح الأمهات والفتيات بتزويج محمد عند عودته في الإجازة الصيفية
، وإذا حضرت عرساً اشتاقت لعرس بكرها ، وألحت عليَّ أن أقسم عليه أن يعود وكفاه غربة
، وكفى أبواه التياعاً ، لقد أدركت نعمة الله على ابن المغيرة الوليد حين منَّ عليه
سبحانه " وجعلت له مالاً ممدوداً . وبنين شهوداً " ولكن ما حيلتي ؟ ولله
الحمد والمنة .
غير أن أم محمد لن تصدق .. إنني
أخشى عليها وقع الخبر .. ماذا لو أن محمداً جاء وأهل عروسه ليقيموا الفرح بيننا ؟ إنني
لا أريد منه شيئاً .. فليتحمل من أجلنا تكاليف ذلك ، أو يرجئه إلى الصيف حين تعود كل
الأسر إلى أوطانها ، لماذا العجلة ؟ !
إن أخوته كلما أرسل لهم ثوباً
جميلاً ادخروه ليوم عرسه ، ماذا أقول لهم ؟ !
وأي حرج أوقعتني فيه يا محمد
مع أمك وإخوتك ومع الناس جميعاً ؟
لقد التزمت .. وربما جعلك التزامك
تأخذ الأمور من غير تعقيد تيسيراً وتسهيلاً ، ولكن أمر زواجك لا يخصك وحدك .
ثم لماذا تريد أن تلغي أعرافنا
ما دامت لا تنطوي على مخالفة لشرعنا ؟
لماذا تريد أن تنتزع قلوبنا من
الصدور بحرماننا من أن نسعد بيوم عرسك .. أن ننهل من الفرحة بهذا اليوم .
كيف أتلقي التهنئة بك ؟ ومتى
يبارك الناس لأمك ؟ كيف وافقك حموك على ذلك ؟ ما الضرورة ؟ !
وأي عبء يثقل كاهلك يا محمد حتى
تأتينا لتقيمه بيننا .. وقد تحملت عنك كثير الأعباء ، كيف استباح حموك لنفسه أن يستأثر
بك دوني ، وأنا وأمك على قيد الحياة لم نمت بعد ؟
أي التزام هذا يا محمد ، لماذا
استأثرت بهذا الأمر ؟ أهكذا عودناك ؟
آه يا أم محمد .. كيف ألقى عليك
بالخبر ؟ أأقول لك إن محمداً لم يرحم شيبتك ولم يرع أمومتك ؟
آه يا أم محمد .. لا أستطيع ،
وقد كنت - يوم جئتك خاطباً -حريصاً على أن يقرني والداي عليك .. ولم أتقدم خطوة إلا
بمشورتهما .. ماذا تسمين هذا ياأم محمد غير ( العرفان والبر ) بوالدين آن لهما أن أشعرهما
بما لهما من كثير الفضل والحق والمنزلة ؟
ماذا حدث ؟ لا أدري ياأم محمد
.. هل هي العولمة التي يتحدثون عنها ؟
وما شأن العولمة بخلق كبر الوالدين
؟ أم هي المرونة التي تلغي مشاعر أبوين ، وتميتهما وهما حيان !
أتريدني يا محمد أن أكون وأمك
على مستوى إيقاع العصر وتطوراته فلا أقف طويلاً عند أمر زواجك وانفرادك به ، وحرماننا
من الفرح بك ؟
أي تطور هذا واي تيسير ؟
إنه لا شك عقوق وجحود .. فأنا
أب وأم محمد أم ، فلا يكلفنا أحدُ - باسم مدنية أو تحضر أو رقي - أن نلغي ابوتنا وأمومتنا
، وأن نلغي حقنا في الفرح بعرس بكرنا الذي انتظرناه كثيراً ، وترقبناه منذ أن كان صغيراً
، وعملنا له ألف حساب يوم أن كان دخلنا يسيراً ،
أفبعد هذا .. تميتون الفرحة في
قلوبنا بأسماء سميتموها أنتم وعولمتكم وفهومكم التي .. ؟
وبينما أبو محمد في خواطره المنفعلة
، تجري أم محمد مسرعة من حيث كانت :
لماذا لم تنادني لأكلم محمداً
؟
ألا تعلم أنه منذ مدة لم يتصل
، وقد اشتقت إليه ؟
بشّر أبا محمد : هل وافقك على
النزول هذا الصيف لنزوجه ؟
لم يرد أبو محمد ولكنه تمتم قائلاً
: بل علينا أن نبارك له ؛ فقد أعرس منذ أسبوع .. فافرحي يا أم محمد .. وأقيمي الزينة
لبكرك العريس الغائب .
---------------
طالع المقال على موقع : طريق الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق