الأحد، 23 أبريل 2000

دموع ساخنة


بقلم : ماجدة شحاته
عاد بعد غربة امتدت عاما ، ترك فيها زوجه وولده ، كما هب عادته كل إجازة صيفية
أعدت كل شئ لاستقباله ، البيت منظم ومرتب ، كل شئ في مكانه ، رائحة الطعام تملأ جنبات المكان ، ورائحة بخور تنفذ من غرفة نومها ..
ألقت على الصغار دروسا في أدب استقبال الأب الغائب ، أعادت النظر في كل ركن من أركان البيت ، لتضفي عليه جديدا .

عمدت إلى غرفة نزمها فأعادت ترتيبها على نحو مغاير ، تكون فيه جدة وطرافة ، وضعت على منضدة أنيقة ، زجاجة عطر تفوح برائحة لم يشمها من قبل ..
رتبت بحسب الأيام التي سيمكثها ملابس نومها وجلوسها معه ، اقترب موعد وصوله ، اضطرب قلبها ، خفقت مشاعرها ، كأنها تستقبله لأول مرة بعد أول غيبة ، فقد اشتد بها الشوق ، وبلغ بها الحنين إليه مبلغه ، وآن لهذه المشاعر المضطرمة أن تطفأ ، ولهذا الظمأ أن يروى ، وآن لهذه النفس أن تسكن يعد طول عناء ، وكثير مغالبة لإلحاحات لاتجد لها تصريفا ..
لقد تعبت كثيرا وهو عنها بعيد ، تنوب عنه في دور الأب ، لتصبح الأمومة أصعب ، لكنها تثابر من أجل حياة كريمة يسعى هو إليها بغربة ثمنها الحرمان ..

إن مهاتفاته لايطيقها دخله ، فلا تكاد تسمن من جوع أو تغني من ظمأ ، فلاتحتمل كلمة حانية أو همسة رقيقة ، ولاتكاد تتجاوب معها المشاعر حتى ينقطع الاتصال ، ولكنها تجالد وتثابر على حاجتها لرجل بجوارها ، مدخرة كل ذلك الحرمان لتتدفق المشاعر جملة واحدة عند اللقاء آخر العام ، فيحنو عليها ويشيع جوعتها أو يترع ظمأها ، فيحتويها وتحتويه فكلاهما ظمئ للآخر ..

هاهو يطرق الباب فيكاد قلبها ينخلع فرحا بعودته ، لاتصدق أنهما سيجتمعان ثانية ، لاتنسى وهي في غمرة سعادتها به أن تحمد الله أن سلمه لها وجمعها به مرة أخرى .
فتحت الباب وبين الضلوع قلب يخفق ، قبلت يده ، ألقت بنفسها بين يديه ، راعها أنه لم تلفها ذراعاه بكل تلك القوة التي كانت من ذي قبل ، لم تلسعها حرارة خده حين هوت عليه تقبله ، حتى يده عندما ضغطت على أصابعه لتتشابك مع أصابعها لم تشعر بقوتها ..

لم يكن حريصا على صرف الأولاد بكثير من الاحتيال ، ليخلو بها سريعا كما كان يفعل ، أحست بصدمة عنيفة وفجأة بردت جميع مشاعرها ، تمالكت نفسها ، دفعت عنها دمعة كادت أن تنحدر ، كتمت في أعماقها صرخة تريد أن تسمع إجابة لما وجدت غير أنه تماسكت ..تحاملت وكل شئ في داخلها يغلي ، بل يفور فورانا ، إذ لابد أن في الأمر شيئا ..
"قد يكون متعبا ومرهقا "

هكذا حدثتها نفسها محاولة إيجاد مبرر لكل هذا الفتور..
"ربما كانت أزمته المالية الخانقة سبب ذلك الفتور "
ربما ..رددتها غير مقتنعة إذ لم تعهده هكذا في أحلك ظروفه
ابتسمت ابتسامة خفيفة تخفي وراءها الكثير من الحيرة ولكن ماذا عساها أن تفعل ..
إنها تقابله بشوق جارف ، وحنين دافق وهو فاتر المشاعر كأنه لم يكن في غربة عن زوجة ،
صحيح أنه لم يقصر في إقباله عليها غير أنها تقيس حرارة الإقبال فإذا هي دون ماكان بينهما
فكل ماكان من مشاعر مضطرمة وأشواق محترقة أصبح شيئا عاديا لاروح فيه ولاحياة .
مضت أيام وهي تعالج هواجسها ، تكذب خواطرها ، تدفع ظنونها ، تستوثق لقلبها من حبه لها وشوقه إليها ، تريه من حبها ولهفتها ما يستجيشه أو يستدفئه ، تغالب وساوسها وتصرف سرحاتها البعيدة عن تصور ما قد يكون وراء فتوره ، بل وأحيانا انصرافه عنها .

في ليلة لاتكاد تنساها ، انتبهت من نومها على صلاة الفجر ، توضأت وصلت ثم مالت إلى حيث مقعد في غرفة الصالون ..غفت إغفاءة خفيفة .
انتبهت على صوت الهاتف يرن في صوت متوال ، وإذا هو يعود من مسجده مسرعا ،ليصل إليه
أمسك بالسماعة ، حمل الهاتف على بعد أمتار من غرفة النوم ، لقد ظنها نائمة تكلم هامسا ، لم تسمع شيئا سوى قوله في حرارة ودفء
ــ أحبك ..أوحشتني جدا "
غامت الدنيا أمام عينيها لم تسمع شبئا بعد ذلك ، أدركت سر فتوره ، كتمت أنفاسها ، طفرت دموعها تهمي على خديها أ لم تحتمل الكتمان ، انفجرت في بكاء هستيري
عاد إليها مسرعا وجلا ، ضمها إليه بكل دفء لم يعد له معنى ، نظرت إليه وهي تردد في نفسها
" ليتك أعددتني لمثل هذا اليوم "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق