بقلم : ماجدة شحاته
عاد بعد غربة امتدت عاما ،
ترك فيها زوجه وولده ، كما هب عادته كل إجازة صيفية
أعدت كل شئ لاستقباله ،
البيت منظم ومرتب ، كل شئ في مكانه ، رائحة الطعام تملأ جنبات المكان ، ورائحة
بخور تنفذ من غرفة نومها ..
ألقت على الصغار دروسا في
أدب استقبال الأب الغائب ، أعادت النظر في كل ركن من أركان البيت ، لتضفي عليه
جديدا .
عمدت إلى غرفة نزمها فأعادت
ترتيبها على نحو مغاير ، تكون فيه جدة وطرافة ، وضعت على منضدة أنيقة ، زجاجة عطر
تفوح برائحة لم يشمها من قبل ..
رتبت بحسب الأيام التي
سيمكثها ملابس نومها وجلوسها معه ، اقترب موعد وصوله ، اضطرب قلبها ، خفقت مشاعرها
، كأنها تستقبله لأول مرة بعد أول غيبة ، فقد اشتد بها الشوق ، وبلغ بها الحنين
إليه مبلغه ، وآن لهذه المشاعر المضطرمة أن تطفأ ، ولهذا الظمأ أن يروى ، وآن لهذه
النفس أن تسكن يعد طول عناء ، وكثير مغالبة لإلحاحات لاتجد لها تصريفا ..
لقد تعبت كثيرا وهو عنها
بعيد ، تنوب عنه في دور الأب ، لتصبح الأمومة أصعب ، لكنها تثابر من أجل حياة
كريمة يسعى هو إليها بغربة ثمنها الحرمان ..
إن مهاتفاته لايطيقها دخله ،
فلا تكاد تسمن من جوع أو تغني من ظمأ ، فلاتحتمل كلمة حانية أو همسة رقيقة ،
ولاتكاد تتجاوب معها المشاعر حتى ينقطع الاتصال ، ولكنها تجالد وتثابر على حاجتها
لرجل بجوارها ، مدخرة كل ذلك الحرمان لتتدفق المشاعر جملة واحدة عند اللقاء آخر
العام ، فيحنو عليها ويشيع جوعتها أو يترع ظمأها ، فيحتويها وتحتويه فكلاهما ظمئ
للآخر ..
هاهو يطرق الباب فيكاد قلبها
ينخلع فرحا بعودته ، لاتصدق أنهما سيجتمعان ثانية ، لاتنسى وهي في غمرة سعادتها به
أن تحمد الله أن سلمه لها وجمعها به مرة أخرى .
فتحت الباب وبين الضلوع قلب
يخفق ، قبلت يده ، ألقت بنفسها بين يديه ، راعها أنه لم تلفها ذراعاه بكل تلك
القوة التي كانت من ذي قبل ، لم تلسعها حرارة خده حين هوت عليه تقبله ، حتى يده
عندما ضغطت على أصابعه لتتشابك مع أصابعها لم تشعر بقوتها ..
لم يكن حريصا على صرف
الأولاد بكثير من الاحتيال ، ليخلو بها سريعا كما كان يفعل ، أحست بصدمة عنيفة
وفجأة بردت جميع مشاعرها ، تمالكت نفسها ، دفعت عنها دمعة كادت أن تنحدر ، كتمت في
أعماقها صرخة تريد أن تسمع إجابة لما وجدت غير أنه تماسكت ..تحاملت وكل شئ في
داخلها يغلي ، بل يفور فورانا ، إذ لابد أن في الأمر شيئا ..
"قد يكون متعبا ومرهقا
"
هكذا حدثتها نفسها محاولة
إيجاد مبرر لكل هذا الفتور..
"ربما كانت أزمته
المالية الخانقة سبب ذلك الفتور "
ربما ..رددتها غير مقتنعة إذ
لم تعهده هكذا في أحلك ظروفه
ابتسمت ابتسامة خفيفة تخفي
وراءها الكثير من الحيرة ولكن ماذا عساها أن تفعل ..
إنها تقابله بشوق جارف ،
وحنين دافق وهو فاتر المشاعر كأنه لم يكن في غربة عن زوجة ،
صحيح أنه لم يقصر في إقباله
عليها غير أنها تقيس حرارة الإقبال فإذا هي دون ماكان بينهما
فكل ماكان من مشاعر مضطرمة
وأشواق محترقة أصبح شيئا عاديا لاروح فيه ولاحياة .
مضت أيام وهي تعالج هواجسها
، تكذب خواطرها ، تدفع ظنونها ، تستوثق لقلبها من حبه لها وشوقه إليها ، تريه من
حبها ولهفتها ما يستجيشه أو يستدفئه ، تغالب وساوسها وتصرف سرحاتها البعيدة عن
تصور ما قد يكون وراء فتوره ، بل وأحيانا انصرافه عنها .
في ليلة لاتكاد تنساها ،
انتبهت من نومها على صلاة الفجر ، توضأت وصلت ثم مالت إلى حيث مقعد في غرفة
الصالون ..غفت إغفاءة خفيفة .
انتبهت على صوت الهاتف يرن
في صوت متوال ، وإذا هو يعود من مسجده مسرعا ،ليصل إليه
أمسك بالسماعة ، حمل الهاتف
على بعد أمتار من غرفة النوم ، لقد ظنها نائمة تكلم هامسا ، لم تسمع شيئا سوى قوله
في حرارة ودفء
ــ أحبك ..أوحشتني جدا
"
غامت الدنيا أمام عينيها لم
تسمع شبئا بعد ذلك ، أدركت سر فتوره ، كتمت أنفاسها ، طفرت دموعها تهمي على خديها
أ لم تحتمل الكتمان ، انفجرت في بكاء هستيري
عاد إليها مسرعا وجلا ، ضمها
إليه بكل دفء لم يعد له معنى ، نظرت إليه وهي تردد في نفسها
" ليتك أعددتني لمثل
هذا اليوم "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق